أحدث المواضيع

زمّار الحـــــيّ بقلم علي الشافعي









زمّار الحـــــيّ بقلم علي الشافعي
يقال ــ يا دام عزكم ــ : (لا كرامة لنبيّ في قومه) , وهي عبارة إنجيلية يقال ان السيد المسيح ــ عليه من الله السلام ــ قالها عندما أحاط به أطفال ( مدينة الناصرة ) وأخذوا يصيحون : " حتى ابن مريم يتنبأ " ؟ فقال عبارته التي أصبحت أحدى أهم الاقوال المأثورة ( لا كرامة لنبي في قومه ) , وتعني أن الشخص لا يلقى الاحترام والتقدير الذي يستحقه من قومه بل من الآخرين . وبالفعل فقد أوذي اغلب الانبياء في اوطانهم ؛ وتعرضوا اما للقتل او الطرد من بلادهم , كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وابراهيم ومحمد عليهم السلام , حتى اضطروا لمغادرة اوطانهم فانتشرت دياناتهم خارجها . 
يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
ارحل بنفسك من أرض تضام بها ولا تكن من فراق الأهل في حرق
من ذلّ بين أهاليـــــــــــه ببلدته فالاغتراب لـــه من أحسن الخلق
وقال السري الرفاء:
قوّض خيامك عن دار ظُلمْت بها و جانب الــذل , إن الذل يجتنب
وارحل إذا كانت الأوطان مَضيعةً فالصندل الرطب في أوطانه حطب
والصندل نوع من الاشجار يستخرج منه اغلى واجود انواع العطور.
اما ابو الفرج بن الجوزي فيقول : 
عذيري من فتية بالعـــراق قلوبهم بالجفـــــــا قُلَّبُ
يرون العجيب كلام الغريبِ وقولُ القريبِ فلا يعجبُ
وعذرهم عند توبيخــــهم "مغنية الحــــيّ ما تطرب"
والشطر الاخير مثل ايضا , فيقال : مغنية الحي لا تطرب , او :(مطرب الحي لا يطرب) او (زمار الحي لا يطرب ) . اما قصة هذا المثل , فيقال ــ والعهدة على من قال ــ ان شابا نبغ فى العزف على نايه (آلة الناي) , فكان كل ليلة يخرج فيجلس تحت شجرة على ربوة بظاهر القرية , ثم يبدأ بالعزف عليه, فتتناقل الرياح أصوات هذا الناي وتنصت الأشجار والعصافير لعذوبة ألحانه , وينتبه أهل قريته لمطلع قصيدته ثم ينشغلون فى أعمالهم غير عابئين به , حتى مر عليه أحد الرحالة فى يوم من الأيام فاعجبه عزفه , فعرض عليه الرحيل معه على أن يعطيه فى كل شهر ألف درهم ، وافق الشاب وسار مع الرحالة إلى قرية قريبة , حيث حلاّ فيها , وأعلن الرحالة عن حفلة عظيمة يحييها هذا الفتى الملُهم . وهكذا اخذا يتنقلان بين المدن والقرى , فنجح الشاب ، وتميز ، واغتنى ، واشتهر وصار يشار اليه بالبنان . 
تمنى الفتى ذات يوم العودة إلى قريته وحيّه ؛ وهو الأريب الألمع ذو الناي الأروع ، فخاطب صاحبه الرحالة , وعبر له عما جال بخاطره , فأجابه الرحالة بأن الخير في غير قريتك , والمال والفن ليسا بها . فأصر الشاب وقال : أهلي وأبناء حيّي وعشيرتي . خضع الرحالة لرغبة الشاب وسار معه إلى قريته وحاملا شهرته وفنه ومجده , وعند أبواب القرية وقف الشاب متأملاً ربوته وجِلسته تحت شجرته الحبيبة , فدخل القرية دامعاً متوقعاً ترحيباً شديداً من أهله وعشيرته . واجتمع الناس على هول ما رأوه من عظمة الهودج وجماله , وما فيه من أُبهة تسحر العين وتأخذ بالألباب . توسّط الموكب القرية , فاطل الشاب خرج عليهم , فلم يعرفوه لحسنه وجمال مظهره ، فأخرج الشاب نايه وأخذ يعزف بلحن طالما دندن به في أعلى الربوة , وطالما أشجى الناس به خارج قريته ، وأخذ يعزف ويعزف حتى انتهى اللحن , وهنا توقف الشاب وانتظر سماع التصفيق , كما اعتاد فى كثير من القرى , ولكن ما وجد من اهل القرية احدا , فقال الرحالة للشاب : ” زامر الحي لا يطرب “. وبالخلاصة : توقف عن العزف توقف عن الإبداع ليبقى في وطنه ولا يقاسي مرارة الاغتراب .
اقول ــ ايها السادة الكرام ــ : في بلاد بني عرب هناك اجماع غريب وعجيب وفريد من نوعه , رغم انهم نادرا ما يجمعون على شيء , هناك اجماع على ان (الفرنجي برنجي ) أي : كل ما هو اجنبي فهو جميل وموثوق به , ولا جمال للمحلّي ابدا ولا ثقة به , كيف ؟ سأقول لكم ورزقي على الله , بعد الصلاة على النبي : 
تحرص كل مؤسسة من مؤسسات بني عرب ؛ ولتكون مشهورة , تحرص على استقدام مستشار او خبير اجنبي , باذلة له اعلى الرواتب والامتيازات والحوافز , رغم انه في كثير من الاحيان لا يقدم شيئا , وانما هي عقدة الاجنبي , بالمقابل يتهافت المسوّقون لتسويق منتجاتها , فقط لعقدة الاجنبي , ففي المؤسسة خبير اجنبي . حتى اخذت كثير من الوزارات تحذو نفس الحذو , فالوزير لا تعجبه الكفاءات من ابناء الوطن مهما كانت عالية , فقط لأنها عربية , فيتفاخر امام زملائه الوزراء بانه استقدم في وزارته خبراء اجانب , بالرواتب الفلانية والامتيازات العلانية والحوافز البطيخانية . حتى وصل الامر الى النوادي الرياضية , ففي النوادي الشهيرة في بلاد بني عرب لبني عرب الكثيرة , ومن اجل خوض حروبهم الكروية , والانتصار المظفر على خصومهم , يستقدمون اللاعب الاجنبي والمدرب الاجنبي , فقط بسبب عقدة الاجنبي . اذكر ان احدي دول بني عرب استقدمت لاعبا اجنبيا بحوالي مليون دولار في الموسم , ومدربا بحوالي خمسة ملايين , لتفوز بكاس العرب , ومع ذلك لم تفلح في الحصول على الكاس . احدي المؤسسات في دول بني عرب السعيدة صاحبة المواقف الحميدة , والآراء السديدة استقدمت خبيرا اجنبيا بمبلغ عشرين الف دولار شهريا , هذا الكلام في الثمانينات , ولما اكتشفت ان الخبير عربي الاصل , خفضت الراتب الى ثلاثة الاف , فاضطر الخبير الى لملمة اوراقه وفسخ العقد ومغادرة البلاد , كل ذلك بسبب عقدة الخواجا او (الفرنجي برنجي ) .
والطريف في الامر أننا حتى في خلافاتنا نستشهد أحيانًا بالأجنبي ، وفي محافلنا نتفاخر بما هو اجنبي , وهو نوع من البرستيج , فتتفاخر النساء ان ثيابها ومكياجها وعطورها من ارقى المحلات الباريسية , وان الرقي يكمن في بعص الكلمات باللكنة الاجنبية يُرطَن بها بين الحين والاخر . وكثير من اصحاب الفكر والمواقف المتحررة يعجبون ويصفقون لفاجرة اجنبية تنتقد النساء المسلمات ؛ انهن لا يقدْن السيارات ولا يتبرجن في المناسبات ولا يشربن , فيعتبرون ذلك تخلفا , ناسين أن تلك المرأة التي تقول ذلك تمارس حريات لو مارست بعضًا منها إحدى نسائنا لكفَّروها، وطالبوا بإعدامها . 
في يوم الثلاثاء (الثاني من اب للعام 2016 ) غادرنا الى جوار ربه العالم العربي الكبير أحمد حسن زويل (26 فبراير 1946 - 2 أغسطس 2016) وهوعالم كيميائي مصري وأمريكي الجنسية حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لسنة 1999 لأبحاثه في مجال كيمياء الفيمتو , حيث قام باختراع ميكروسكوب سريع للغاية يعمل باستخدام الليزر , له القدرة على رصد حركة الجزيئات عند نشوئها وعند التحام بعضها ببعض . والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها الصورة هي فيمتو ثانية , وهو جزء من مليون مليار جزء من الثانية , وهكذا يمكن رؤية الجزيئات أثناء التفاعلات الكيميائية .
حاول الدكتور رحمه الله العودة الى بلاده وإنشاء مدينة للبحوث في مدينة 6 اكتوبر في مصر , فوجد من المعيقات والمثبطات والروتين والدسائس والمؤامرات والتهديدات , ما جعله يلملم حوائجه ويعود ادراجه الى امريكا ليمنح الجنسية ويعين في ارقى الصروح العلمية في معاهدها التقنية , وتوفر له كل الامكانات , مما جعله يقول عبارته المشهورة : "الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا اغبياء , هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح , ونحن نحارب الناجح حتى يفشل ". طبتم وطابت اوقاتكم .

ليست هناك تعليقات