أحدث المواضيع

وسائد بالية بقلــــــم/ جيهان السنباطى




الفصل الأول 

ليالى الشتاء

فى إحدى ليالى الشتاء الباردة , كان المطر ينهمر بغزارة من السماء كحبات اللؤلؤ, فاغتسلت الشوارع والبيوت والسيارات ونفضت عنها الغبار والأتربة الذى عشش على أسطحها ومخابئها خلال فصل الصيف,وأصبحت الشوارع والحوارى والأزقة كالعروس التى تتهيأ ليوم زفافها , فتتحمم وتتزين وتتعطر بأغلى العطور وترتدى أثمن الملابس وأطهرها من أجل لقاء الحبيب.
كان ارتطام قطرات المطر بسطح الأرض وجدران المنازل وزجاج النوافذ يصدر أنغاماً وكأنها أوتار كمان ,تملأ الكون بألحانه الساحرة , وتتراقص على ألحانها أوراق الشجر وتتمايل لها الزهور مبتهجة .
كل قطرة كانت تلامس سطح الأرض كانت كأنها بلسم شافٍ , ترياق يزيل هموم ساكنى هذا الكون ,ويمنحهم الأمل فى غدٍ أفضل,غدٍ بلا وجع بلا هموم,غدٍ كله فرح ,كله أمانى.
كم جميل أن تجمعنا ليالى الشتاء ,فنتسامر ونتحاور حتى يغلبنا النعاس ,كم جميل أن نراقب جمال المطر وعلى شفاهنا إبتسامة تحيى بداخلنا الذكريات ,كم جميل أن يتساقط المطر فيغسل أحقاد الصدور وسواد القلوب فتصبح صافية كصفاء السماء .
وهاهى الساعة قد إقتربت من الحادية عشرة ليلاً , وكل من بحى الزيتون - وهو أحد أحياء القاهرة الشعبية – قد أطفأ أنوار منازلهم , منهم من إستسلم للنوم والدفء تحت الأغطية الصوفية , ومنهم من إلتف حول شاشة التليفزيون مع أسرته ,مع أناس يحبهم ويحبونه ,ليتلمس نوعا آخر من الدفء الأسرى, ومنهم من جافاه النوم وتلاعبت به الذكريات .
وعلى غير المعتاد كان الحى الذى لا تنطفىء أنواره ابداً ,بدا خاليا تقريبا من البشر, لغزارة هطول المطر ,فارتبكت الشوارع ,واقفلت المتاجر ,والكل يجرى مسرعاً باحثاً عما يحميه من ماء المطر, فلا نكاد نرى سوى شابين يهرولان هرباً من المطر, يغطيان رءوسهما بملابسهما ,يمازحان بعضهما البعض, فتتعالى أصواتهما بالضحكات ,وطفل صغير بيده كيس من البلاستيك الاصفر به خبز أفرنجى يسرع بخطاه ليحتمى من المطر تحت شرفات المنازل ,وبيده قطعة من الخبز الطازج يأكلها, وكهل يختبىء تحت مظلته المتهالكة وهو يعبر الشارع ليصل الى بيته, وامرأة عجوز تقف فى إحدى الشرفات تحاول لملمة الملابس المنشورة خوفا من أن يبللها المطر, وآخرى تسرع باغلاق نوافذ منزلها حتى لاتتسرب مياة المطر لداخل المنزل فتبلل الستائر والمفروشات .
أنه لمشهد فى غاية الروعة لم يكن يتابعه احد فكل النوافذ أغلقت سوى نافذة واحدة صغيرة هى من ظلت مفتوحة على مصراعيها , يتسلل من خلالها شعاع خافت من الضوء, وأمامه ستارة من الحرير الأبيض تتراقص على صوت زخات المطر وأنغام الفنانة فيروز وهى تشدو :
رجعت الشتوية .. ضل إفتكر فيى.. ياحبيبى الهوى مشاوير.. وقصص الهوى مثل العصافير..ياحبيبى الهوى غلاب .. عجل وتعى السنة ورا الباب.. شتوية وضجر وليل .. وأنا عم بنطر على الباب.
وكان خلف تلك النافذة منضدة خشبية عليها فنجان من الشاى الساخن , ينبعث منه خيوط متصلة من الدخان وكأنها حمم بركانية من شدة حرارته , وبأسفل الفنجان كتاب مغلق على سطحه ذرات من التراب وكأنه على هذا الوضع منذ أعوام كثيرة لم يتحرك من مكانه , وكلاهما فى غرفة جلوس صغيرة ذات إضاءة خافتة ضعيفة , تحتوى على جهاز تليفزيون صغير , وأريكة وأربع كراسى متوسطة الحجم , وكرسى هزاز خشبى ,ومكتبه صغيرة تحتوى على بعض القصص الخيالية والرومانسية.
وفى لحظة .. وبهدوء شديد .. تمتد يد بشرية ترتعش من برودة الجو , لتلتقط فنجان الشاى , فتحتضنه بكلتا يديها , وتدنو به من شفتيها بهدوء شديد لترتشف منه أول رشفة , ليختلط الدخان الصادر من الفنجان بأنفاسها , وتخترق حرارته جبال الجليد التى إستوطنت هذا الجسد النحيل المتجمد لتعيد له حيويته ورونقه.
ووسط هذا السكون الرهيب يأتى وميض البرق ليكشف الستار عن ملامح صاحبة اليد الباردة, فإذا هى أنثى فى الثلاثينيات من عمرها ,خارقة الجمال , ناعمة , كلها أنوثة , تفوق فى جمالها وحسنها روعة الملائكة , بيضاء اللون كبياض الثلج , وجهها جميل مستدير كأنه قمر مستنير , خدان مكتنزان كأنهما تفاحتان بلون شقائق النعمان، أنفٌ أقنى كأنه مرجان، اسنان لؤلؤ كثيرة اللمعان، شفتان من الكرز مخضَّبتان ، ابتسامة كالوردة تزهو، وعيون تحاكي عيون الغزلان،وحاجبين كالهلال , شعرها اسود حالك كالليل، وعنقها طويل فيه قلائد جمان وجمال يرافقه جمال العينين فيهما نظرات تعب وعتب ,نظرات تائهة حائرة تكفف الدمع قبل ان يسقط ويهزم كل هذه الهيبة والقوة ويهزم كل هذا الجمال، تتألم بصمت وتختبئ خلف اسوار الابتسامة .
أما الجسد فهو كقصيدة شعر رومانسية حزينة ناعمة , لحن جميل تستجيب لروعته كل حواس الرجال , صوت ناى لم يتوقف عن العزف منذ ملايين السنين , لوحة فنية نادرة يحتار أعظم الفنانين فى رسم مواطن جمالها , فالذراعان طويلتان ناعمتان منسابتان برقة , وأصابعها طويلة رقيقة وكفيها صغيرة , ذات قوام ممشوق رشيق وخصر نحيل, ونهدين متوسطين جميلين متناسقين ,وبطن مسطح مشدود,وارداف 
يالها من أنثى .. كيف لهذا الجمال أن يكون وحيدا فى ليلة كهذه .. وكيف لايشاركها أحد تلك اللحظات الرمانسية الهادئة.. من تكون تلك الأنثى ؟؟ أهى من عالمنا أم من عالم آخر ؟؟ فجمالها يثير بداخل كل من يراها تساؤلات كثيرة ,فإنها رغم روعتها وحسنها غامضة كاللغز .. كالمستحيل .. رائعة كالحلم الوردى الجميل .. أنثى ناعمة لاتؤثر برودة الطقس على جمالها وأنوثتها فمن خلال الضوء الخافت فى غرفتها ظهرت بقميصها الأزرق وهى تضع على كتفها شالاً صوفياً منقوشاً بالورود الصفراء والبيضاء والحمراء , شعرها منسدل على ظهرها كخيوط الحرير وكأنها حورية من السماء .
تلك الأنثى قد اعتادت متابعة هطول المطر فقد كانت تلك العادة تستهويها منذ أن كانت طفلة صغيرة وهى فى منزل اسرتها , فتلك اللوحة الفنية الرباينة التى ترسمها قطرات المطر على زجاج نافذتها كانت تأخذها الى عالم آخر , عالم تغمره المشاعر والاحاسيس , عالم يسكنه الهدوء والسكينة , عالم من الرومانسية التى افتقدتها فى حياتها ولطالما راودتها فى احلامها , فدائما كانت تشعر بأنها تفقتد لشىء ما لاتعلمه ,وأن فقدانه يفسد عليها إحساسها بجمال الحياة, وكانت تدرك أن الواقع الذى تعيشه لم يكن هو الواقع الذى تمنته, وأنها كانت تستحق الأفضل , لكنها لم تكن تعلم ماهو الشىء الذى ينقصها , وكانت دائما تتحدث الى نفسها وتحاول إقناعها بأنها خلقت لرسالة ما , وهى تربية أولادها وخدمة زوجها , وان سعادتهم هى سعادتها , ونجاحهم هو نجاحها وان عليها الاستمرار والرضا بالمكتوب . 
ورغم واقعيتها وحرصها على استقرار بيتها وأولادها لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير فى حلمها الرومانسى وفارس أحلامها الذى يأتى على حصانه الأبيض ليختطفها ويأخذها الى عالمه الرائع فيبحر بها فى بحار العشق ويٌشبع حاجتها للحنان ويعزز قيمتها بالإعجاب والتقدير .
لم يكن زوجها هو فارس أحلامها الذى تمنته ورسمت صورته فى خيالها, فهو يختلف عنها كلياً ,فهى انثى حساسة خيالية رومانسية تحركها الكلمة الرقيقة واللمسة الحانية,وهو رجل واقعى لم يدرك مدى إحتياجها القاتل لأن تشعر انها أنثى, فهو قليل الكلام خشن قاسٍ فى التعامل ,لايدرى كيف يجذب زوجته اليه او يدغدغ مشاعرها , الحب عنده هو توفير طلبات البيت والزوجة , ولحظات الدفء عنده فقط عندما تنطفىء الأنوار ويصيران جسداً واحداً بلا شىء يفصلهما ,أما الحب عندها فهو شىء آخر , فالحب كما تراه هى .. هو اصل العشق والغرام,هو الهوى والهيام ,هو ذلك الشعور الخفى الذى يتجول بداخلنا باحثاً عن فرصته ليداعب الإحساس ويسحر العيون,ويسيطر على كيان الإنسان, هو الوباء اللذيذ المعدى ,هو مغناطيس يجذب الكائنات وبدونه لن تستمر الحياة,هو الكلمات التى تدغدع المشاعر وتدفىء القلب ,هو اللمسات الحانية التى تشعرها بأنها أنثى مرغوبة كالطفلة المدللة كل رغباتها وطلباتها مجابة , هو النار التى تجعل للحياة لون ومعنى , هو العشق المجنون الذى لاتنطفىء شموعه الا ببركان من القبلات والاحضان الدافئة وحالات الجنون التى تفقدها إحساسها بالزمان والمكان , تجعلها فى غيبوبة لاتشعر فيها سوى بالنشوة بالمتعة ,تشعرها بأنها ملكة وبيدها الصولجان.
وللرواية بقية,,

فتابعونى .. والفصل الثانى قريباً
من وسائد بالية
تحياتى لقرائى الأعزاء

ليست هناك تعليقات