أحدث المواضيع

عالم بقـر ، بقلم / بهاءالدين بدوي‏

بطل قصتنا شاب في مقتبل عمره .. في عمر الزهور كما يقولون ... نشأ وترعرع في أحد الأحياء الشعبية بمدينة المعز .. القاهرة .. وماأدراك ماالقاهرة .. تلك المدينة الساهرة .. الساحرة .. بكل ماتزخر وتزدهر وتزدحم به من ثقافات مختلفة وعلى جميع الأشكال والالوان ، ومستويات اجتماعية متضاربة ومتباعدة ،وعلم وأدب وتاريخ وأحياء شعبية وأحياء راقية .. جميع ألوان الطيف وأكثر تجتمع فيكي أيتها القاهرة الرائعة ، وسكان القاهرة يعرفون ذلك جيداً . ولإختلاف الثقافات والمستويات الاجتماعية والمادية في هذه المدينة ورغم ازدحامها الذي لامثيل له في العالم كله الا في الصين الشعبية نجد لكل فرد فيها طموحات تختلف عن الآخرين - عشرة ملايين نسمة تعداد القاهرة وقت أن وقعت أحداث قصتنا لعجيبة – نعم عشرة ملايين نسمة ، يحمل كل منهم في طيات جعبة نفسه طموحاته واحلامه الخاصة المختلفه شكلاً وموضوعاً عما يحمله الآخرون ، نعم يمكننا أن نعد في القاهرة عشرة مليون هدف وحلم . وكان صاحبنا مثله مثل غيره من الشباب في سنه من أبناء الطبقة المتوسطة أو دون المتوسطة من قوى الشعب العامله البروتاريا (عمال وفلاحين) يحتفظ بحلمه الخاص في أغوار أعماق نفسه ، لايبدي هذا الحلم ولايخبر عنه أحداً أياً من كان قريباً له أو بعيداً كان. وهذا حق من حقوقه – حقوق الانسان- كما كان يعتبرها ويسميها .. أتدرون ياسادة عن كنه حلم هذا الشاب الطموح ومكنونه ؟ .. كان حلمه الأول وطموحه الأوحد أن يرتدي ( بدلة وكرافته) .. لاتتعجبوا .. " فسبحان من جعل في كل قلب مايشغله" .. نعم يرتدي بدله .. ولم لا ؟ ولكن ليست كأي بدلة .. كان حلمه أن يرتدي بدلة مثل التي كان يرتديها مطرب الأجيال محمد عبد الوهاب في فيلم " الوردة البيضا" بشرط أن تكون (كاروهات) ، كان معجباً جداً بل مبهوراً بالبدلة الكاروهات ، ولا أحد يدري لماذا ! .. ربما كانت هذه هي الموضة وقتها .. ألله أعلم .

أنهى صاحبنا دبلوم التجارة أو " دبلون التجارة " كما كانت تطلق عليه والدته تلك المرأة البسيطة المكافحة التي توفي عنها زوجتها تاركاً لها خمسة من الأولاد أكبرهم أبنها (سعيد) ، والذي كان يطلق عليه أصحابه وزملائه وقتها اسم ( سعيد منظر) ، فقد كانو يعلمون جيداً عنه ولعه وحبه الشديد للمظاهر الكذابة والتباهي حتى بما ليس يملكه وبما لايمت له بصلة من قريب أو بعيد ، وحبه للكذب والفشر وكانوا يجتمعون حوله ليستمعوا له وينصتوا الى حكاياته وخيالاته وقصصه ومغامراته والتي كانوا يعلمون جيداً أن لاشيء منها قد حدث ولا شيء منها سوف يحدث . وعلى الرغم من ذلك ماإن يبدأ أخينا ( منظر) في التحدث فعلى الجميع أن يستمعوا له وينصتوا لعلهم يتندرون بما قاله فيما بعد ويتداولونه في مجالسهم ويضحكون حتى الصباح ، وكانت من الكلمات المأثورة في أوساط شلة الأخ (سعيد مظهر)- وهو اسمه الحقيقي وليس (سعيد منظر) كما كانوا يطلقون عليه في شلته واصدقائه وأبناء حارته ، كان اذا قابل أحدهم صاحبه يسأله السؤال التقليدي " ( أخبار منظر ايه ؟) وهي كلمة السر بينهم ليبدأوا في الضحك والتندر بعد أن يعرفوا آخبار آخر فشراته ومغامراته الخيالية ..

المهم .. بمجرد أن أنهى صاحبنا "دبلون التجارة " على رأي والدته (الست أم سعيد الدلالة ) .. والتي وفقها الله أن تجد له عملاً لابأس به لدى أحد كبار صغار المحامين ، والتي كانت زوجته زبونه مستديمة عندها . وراود أخانا في الله أمله القديم من جديد ، بعد أن كان قد يئس من تحقيق حلمه بارتداء البدلة الكاروهات التي تشبه بدلة موسيقار الأجيال في فيلم الوردة البيضا .. نعم عاد الأمل من جديد الى أخينا في الله (سعيد أفندي مظهر) ، واستلم عمله بمكتب الأستاذ فرج أمين المحامي . كان يجلس في مكتب المحامي في المساء يقابل العملاء ، ويعطي لهم المواعيد ويستلم منهم أوراق قضاياههم ، وفي الصباح يحمل للأستاذ حقيبته السامسونايت والتي تحتوي على أوراق قضاياه ومستنداته ، ويذهب معه الى المحاكم والادارات الحكومية أو يرسله في مشاوير الى تلك الجهات اذا كان مشغولا .. وكان الأخ سعيد ينتهز فرصة غياب الأستاذ فرج المحامي ويجلس على مكتبه واضعاً في فمه البايب الخاص بصاحب المكتب والذي كان عادةً مايتركه في مكتبه ، ويبدأ في محاولة اقناع من لايعرفه أنه هو نفسه الأستاذ فرج المحامي .. مسألة هواية .. وبمجرد أن جاء أول الشهر ، واستلم أول راتب له – كان أول مافكر فيه هو تحقيق أمله القديم الذي طالما راوده وطالما كان يغلق عينيه ويهيم في ملكوت الله متخيلاً نفسه وهو يرتدي البدلة الكاروهات التي تشبه بدلة الموسيقار محمد عبد الوهاب في فيلم الوردة البيضاء ، وطبعاً معها الكرافته الحمراء المزخرفة بالورود والزهور والنباتات الخضراء والصفراء والسوداء على دماغه البعيد .

أخذ صاحبنا الموكوس راتبه ، وبدلاً من أن يساعد أمه المسكينة التي تشققت قدماها وتورمت من اللف على البيوت لكي تربيه وتساعده أن يأخذ الدبلون .. انطلق مسرعاً الى محطة ترام المبيضة بساحل روض الفرج واضعاً ذيله في أسنانه متجهاً الى دوران شبراً حتى وصل الى فاترينة صيدناوي ، ووقف ينظر مبهوراً الى مايعرضه المحل من قمصان وبدل من جميع الأشكال والألوان وخاصة بعد أن قالوا له أن هذا المحل لديه بدل مستوردة من جميع الموديلات وبأرخص الأسعار ، وقف صاحبنا أمام باب المحل مبهوراً ومسبهلاً يتجول بعينيه التي كان بهما حول ظاهر ولايعرف أحد اذا كان ينظر الى القميص أو البنطلون – هو فقط الذي يعرف – وأخيراً وبعد عناء طويل وجهد جهيد وجد ضالته (الوردة البيضا ) ، أقصد البدلة الكاروهات الشبيهة ببدلة محمد أفندي عبد الوهاب بطل فيلم الوردة البيضا ، وعلى الفور وبلا أي تردد دلف صاحبنا مسرعاً الى داخل المحل لايرى أي شيء ولايسمع أي شيء من ضجيج دوران شبرا والذي يعرفه جيداً سكان حي شبرا هذا الضجيج الذي طالما صم أذانهم ، أما أذن سعيد أفندي منظر لاتبالي .. لايسمع ولا يرى ولايتكلم ، لايدور في خاطره أي شيء ، لايفكر في أي شيء الا .. البدلة .. البدلة .. البدلة .. كاروهات .. كاروهات .. كاروهات .

المهم .. استقبله البائع في المحل بمنتهى البرود واللامبالاة ، فهو يعرف جيداً هذه الأشكال – من وجهة نظره - والذين عادةً مايكتفون بالفرجة على البضائع المعروضه ويسألون عن سعرها وينصرفوا لحال سبيلهم دون أن يشتروا حتى جوز شرابات أو طقم ( أندر وير ) .. نعم هو يعرفهم جيداً من واقع خبرته . ولكن الذي لم يعرفه على الاطلاق أن الأستاذ سعيد أفندي منظر كان على أتم الاستعداد أن يبيع عيناً من عيونه الحولاء لكي يكمل ثمن البدلة التي أعجبته مهما كلفه ذلك ، ودخل صاحب الى غرفة القياس لكي يقيس محبوبته ويتمتع بدفء أحضانها لجسده النحيل . ونظر صاحبنا في المرآة التي كانت بغرفة القياس بعد أن أغلق الباب عليه . ولكن ياللهول .. لم يرى شيئاً على الاطلاق ، وقال في نفسه مفزوعاً .. أين أنا ؟ أين البدلة ؟ لا أرى شيءاً .. وأخيراً تذكر أنه كان مغمض العينين لكي يتخيل نفسه بالبدلة الجديدة الكاروهات وفي يده الشنطة السامسونايت ذات الأرقام السرية والنظارة السوداء الشبيهة بنظارة الكابتن صالح سليم في فيلم الشموع السوداء . نعم كان يغلق عينيه – فكيف سيرى نفسه في المرآة ؟ .. وأخيرا فتح عينه مرة أخرى لكي يرى نفسه .. عريساً في ليلة دخلته ، كان هذا هو شعوره وقتها تماماً . كان الجاكيت يبدو طويلاً عليه بعض الشيء وقال في نفسه : (مش مهم .. الموضة كده ) ، وكان البنطلون يتجرجر تحت قدميه مثل طفل تعيس يمسك بتلابيب أمه ويتشبث بها ، قال أيضاً ( مش مهم .. سوف أذهب به عند "الأسطى ضبو" الترزي ، وبربع جنيه فقط سوف يظبطه لي ويخليه زي الفل .. بجملة المصاريف .. انشاللا ماحد حوش ) .. هكذا كان يقول في نفسه صاحبنا المتعوس .

وجاءت ساعة الحسم .. حانت ساعة الصفر .. وبعد أن أنهى تقصير البنطلون عند ( الأسطى ضبو) الترزي راود الأخ سعيد أخاه محمود الأخ الأصغر له والذي كان يعمل صبي ميكانيكي لدى إحدى الورش المنتشرة في حواري روض الفرج وقتها ، راوده لكي يستلف منه قميصه الجديد لمدة ساعتين فقط ، وكان أخوه قد اشتراه من وكالة البلح ذلك السوق الشعبي بمنطقة بولاق بآخر راتب أسبوعي تقاضاه من صاحب الورشة التي يعمل بها . ولم ينس سعيد أن يغري أخاه بخمسة قروش وعده أن يعطيها له بمجرد عودته من المشوار الهام الذي هو بصدد الذهاب اليه ، وأخيراً وافق محمود والذي كان يتمتع بالكرم وطيبة القلب وشيء من البلاهة الظاهرة .

وبدأ أخونا في الله في ارتداء ملابسه قطعة قطعة بعد أن قضى في الحمام لايقل عن ساعتين يليف جسده النحيل مرة .. واثنين .. وثلاثة .. ولم ييالي أبداً بصراخ امه بالخارج وقد بح صوتها وهي تناديه : ( ياواد ياسعيد انت بتغسل في كرشه؟ خلص يابني الله يهديك ) .. ولكن من يبالي .. كان كل همه أنه اذا لبس محبوبته كان لامعاً ونظيفاً كنظافة الصيني بعد غسيله . وأخيراً أنهى ارتداء البدلة وقبلها القميص والكرافته المزركشة بجميع الوان الورود والزهور الحمراء والصفراء والنباتات الخضراء والسوداء على دماغه. وما إن انتهى من ارتداء كرافتته العجيبة والتي كان قد أجرها بخمسة قروش من المكوجي ، واستلمها مربوطة جاهزة من الاسطى (شخرم) المكوجي والذي يمتلك محل مكوة رجل على ناصية حارة (شق التعبان) تلك الحارة الرقطاء التي كان يسكن فيها صاحبنا ، ولطالما كره الحارة وكره اسمها وكره جيرانه هؤلاء الفقراء المتخلفين – من وجهة نظره . ولكنه فوجئ بمفاجأة لم تكن أبداً على الباب أو الخاطر .. ماهذا .. يانهار أسود .. لقد خدعني شخرم ، وأعطاني كرافته طويلة ليست على مقاسي ، ماذا أفعل الآن ؟ هل أذهب اليه ؟ نعم سأذهب اليه وأبهدله وأفضحه فضيحة المتطاهر يوم طلوعه على المعاش هذا الغشاش اللعين . كيف يعطيني كرافتة طويلة بهذا الشكل ، وأنا الذي أعطيته خمسة قروش كاملة ثمناً لايجار الكرافته ، ولكن كيف أذهب اليه .. اليوم هو يوم الاثنين أجازة المكوجيه.. ماعلينا .. سألبسها وليكن مايكون .. وطبعاً صاحبنا لم يكن يعلم أن المشكلة لم تكن أبداً في طول الكرافته ولكن في طول صاحب الكرافته ، فقد كان قصيراً لدرجة أنه بعد أن قاس الكرافتها والتي استلمها مربوطة جاهزة بايدين عم شخرم المكوجي . إرتدى صاحبنا الكرفته على علتها ، وكان قد قرر أمراً عجيباً .. قرر أن يلف حواري روض الفرج بالكامل من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها وهدفه الوحيد أن يراه أكبر عدد ممكن من مخاليق ربنا مرتدياً بدلته الكاروهات ممسكا شنطته السامسونايت القديمة والتي أعطاها له الأستاذ فرج المحامي بمجرد أن استلم العمل عنده ، ولم ينس الأستاذ سعيد بك مظهر أن يستعير البايب الخاص بالأستاذ فرج ، اعتقاداً منه أن لن يلاحظ اختفاء البايب وخاصة وأنه لايستعمله كثيراً الا في حالة وجود زبون في مكتبه وماأقل هذه المناسبات السعيدة . كان البايب يشبه بايب " با با ي " تلك الشخصية البحرية الكرتونية .

وخرج سعيد على قومه في زينته كما خرج قارون الملعون ، ولكم أيها السادة والسيدات أن تتخيلوا منظره المبهر الذي تحار فيه العقول ويشيب له الولدان ، فقد كان من يراه لأول وهلة يظن بل يتأكد من أنه سقط سهواً من فيلم أبيض وأسود ، وماإن هم بالخروج حتى استوقفته والدته تلك السيدة الطيبة الصابرة على ماأبتليت به والراضية بقضاء الله وقدره فيما رزقها من خمسة أبناء لكل منهم داءه وعلته ، ولكن لاعلة تفوق علة أبنها سعيد منظر ، والتي كانت الوحيدة التي تدركها جيداً بل تحفظها عن ظهر قلب ، اليس ابنها ؟ أليست هي من أنجته وأرضعته وقامت بتربيته ؟ .. المهم .. سألته مستغربه : ( رايح فين ياواد سعيد ولابس كده ليه ياإبني ؟ .. الدنيا حر موت) ، وعلى الفور أجابها (سعيد أفندي ) كما كان يحب أن يناديه جيرانه بعد أن صار موظفاً محترما ( صبي محامي) عند الأستاذ فرج .. قال لها : ( حر ايه ياأما.. دا أدنا بردان .. وبعدين أنا رايح أقابل ناس مهمين جداً .. عندي اجتماع معهم .. وكلهم لابسين بدل .. يرضيكي أن أكون مختلف عنهم وأنا أهم واحد في هذا الاجتماع ؟ ) ، فنظرت اليه المسكينة مسلمة أمرها لله ، ومستسلمة لقضائه ، وقالت له ( لا ياابني مايرضينيش ) ، وضربت كفاً على كف وهي تقول ( لاحول ولا قوة الا بالله ) ، وهي تعلم تماماً أن لافائدة من النقاش معه .

وخرج الأستاذ المحترم سعيد أفندي وهو يردد في نفسه مبتسماً فرحاً مزهواً بنفسه : هاألفك ياروض الفرج حارة حارة .. زقاق زقاق .. زنجة زنجة .. دار دار .. وسيعرف الجميع من هو سعيد أفندي مظهر . ولم تنتهي القصة عند هذا الحد ياسادة .. بل بدأت . فما حدث له بعد ذلك كان هو القصة بعينها وكانت الطامة الكبرى .. واسمعوا ماجرى وما قد كان ..

خرج أخونا في الله كما قلت لكم وبدأ في اللف في الأزقة والحارات وكانت بداية رحلته في تمام الساعة الواحدة ظهراً وعلى وجه التحديد في اليوم الخامس عشر من شهر يوليو عام ألف وتسعمائة وتسعة و.. وشرشين ) ، كان ينظر الى الأعلى لالشئ ولكن على سبيل الأبهة والوجاهة ، فكيف ينظر الى هؤلاء الفقراء الأوغاد ، وكان يزم شفتيه الى الأسف ، مصعراً خده على سبيل الألاطة والأناقة ، نافخاً صدره للأمام ، رافعاً أسفل ظهره للخلف ، هكذا يمشون ولاد الأكابر ، نعم هكذا يمشي الأستاذ فرج المحامي ، اليس كذلك .. أنا لست أقل من هؤلاء على الإطلاق .. ولكنه الزمن والمجتمع المتخلف ، وعلى رأي المثل ( بلد شهادات ) .

وبدأ صاحبنا يعد المعجبين والمعجبات بشياكته وينظر ذات اليمين وذات الشمال من وقت لآخر حتى يرى من ينظر اليه ويرى نظرات الاعجاب والانبهار في عينيه .. هاهي أول معجبة .. أنها لاتنظر لي فقط .. انها تضحك لي أيضاً ، بالتأكيد هي معجبة بي .. ويزداد الموهوم المسكين زهواً بنفسه وينتفش ريشه أكثر وأكثر ، وفجأة يسمع صوت يسمعه جيداً صوت أجش يناديه .. ( ياسعيد يامنظر .. ولا ياسعيد يامنظاااااار ) وينظر مفزوعاً الى صاحب الصوت من هذا الذي يناديني بإسمي هكذا حاف وبدون أي ألقاب ؟ .. يادي المصيبة السوده .. انه شيخون ، ذلك الولد سليط اللسان .. إبن الولية ام شيخون الداية .. أنا أعرفه جيداً وأعرف سلاطة لسانه .. اذا لم أرضيه واعطيه مايريد سوف يفضحني ولا أستبعد أي شيء يفعله .. ماالذي أتي به الى هنا في هذا الوقت بالذات ، وكيف عرفني ؟ .. نظر اليه سعيد راسماً على وجهه ابتسامة صفراء ممتعضة ورحب به قائلاً : أهلااااان ياأستاذ شيخون .. أؤمرني ، فقال لي : ايه اللي انت مهببه في نفسك ده .. انت هربان من البوليس ولا ايه ؟ فقال له : لالا انا عندي اجتماع مهم مع سيادة الوزير محسن بيه ، وأنا الآن ذاهب اليه انه في انتظاري ، فنظر اليه شيخون نظرة لاتخلو من المكر والسخرية ، قائلاً له : (محسن بيه ! اسم الله عليه .. طيب روح ياخويا اشتري لي علبة سجاير على ماتفرج .. وقال مهدداً له ملوحاً بشتى أنواع التهزيء وقلة القيمة .. أحسن انتي عارفني .. ) ، ودون أن يرد سعيد أو يتفوه بكلمة ذهب مسرعاً الى أقرب بقالة واشترى له علبة سجاير (سمسون أرضي لف ) من النوع أبو فلتر الذي كان يدخنه شيخون بك .. وأعطاه العلبة قائلاً له .. أي خدمة تاني ؟ معلهش أنا مستعجل أحسن إتأخرت على محسن بيه ، فنظر اليه شيخون راسماً على وجهه ابتسامته الماكرة وهو يقول له : لا خلاااص .. مع السلامة ياعم منظر . وماتنساش تسلم لي على محسن بيه .. وختم جملته بحرف عجيب لاأحد يعرف كيف يخرجه من أنفه بهذه الدقة وهذا الاتقان اللامتناهي .

وتنفس سعيد الصعداء بعد أن انصرف هذا الثقيل المدعو شيخون ، وهم باكمال رحلته الميمونه ، ولكن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن ، فمجرد أن أعاد رسم وجهه وملآه بكل علامات العجرفه والعنطظة لزوم الوجاهة والعنجهية كما يفعل الكبراء والمعلمين الكبار في سوق الخضار المجاور لمنزلهم .. الا وحدث له مالم يكن في البال أو الخاطر .. وياليته ماحدث ولا كان .. بنت صغيرة عمرها لايتجاوز الخامسة أو السادسة من عمرها ، كانت تمشي مع أمها ممسكة بيديها وفي فمها مصاصة تلحس فيها بنهم عجيب ، وبمجرد أنه رأته يمشي بجوارهم بشكله المريب الا وتركت يد أمها وألقت المصاصة من يدها صارخة : ( ماما ماما .. الحقي ياماما .. راجل صُغير .. راجل صُغير ) والتفتت امها الى من كانت تشير اليه ابنتها ، وعلى الفور وضعت يدها على فمها كي تمنع ضحكة هيستيرية خرجت من فمها برنة عالية لم تستطيع يدها أن تكتمها .. هي هي هي هي ي يْ .. ينيلك ياموكوس .. ايه اللي إنت عامله في نفسك ده ياواد ياسعيد .. هي هي هي هييييْ .. مرة أخرى وبصوت أعلى ورنين رنااان ، سمعه كل من كان في الحارة التي يسير فيها الواد سعيد افندي منظر .. والتفت سعيد حوله .. واذا به مزنوقاً في دائرة يلتف حول قطرها ما لايقل عن عشرين من الأطفال والكبار من أهل الحارة ، وصاح الجميع في صوت واحد .. ( العبيط اهوه .. العبيط اهوه .. ياسعيد يامنظر .. ياصبي المحامي .. ) فما كان منه الا أن نظر اليهم شذراً وبكل احتقار وعلى نظام ( أصون كرامتي ) قال لهم بكل عظمة وثقة : ( عالم بقر .. ماتفهموش في الشياكة .. أبوكو كلكم ياولاد الـ ..... هو هو ) وعاد الى بيته بعد أن أقسم ألا يرتدي بدلة بعد اليوم مهما كانت الأسباب .. وتوته توته خلصت الحدوته ..

ملحوظة : هذه القصة من وحي الخيال .. ولا تمت الى أي أحد أعرفه أو لاأعرفه بصلة من قريب أو بعيد ، واذا كان قد حدث تشابه في الأسماء فهذا بمحض الصدفة ولزوم الحبكة الدرامية ليس الا.

ليست هناك تعليقات