ظلت هذه الكلمات تشغل ذهنه عدة شهور.. تتحدى محاكماته العقلانية وأعصابه التي باتت مستنفرة باستمرار وهو القادم حديثاً من لندن حاملاً شيئاً من ثقافة أهلها وكثيراُ من ضبابها: عليك أن تهتدي إلى نفسك بنفسك..
ولكن :
إني أختنق. أحس بالضيق يشد أضلاعه إلى داخل قفص صدره، وخيبة كبيرة مثل الدوامة تلفه وهو فيها مثل قصبة فارغة في مهب الريح.. إن عاجز تماماً عن قلب مفهوم التغيرفي هذه المدينة التي تتقاذفه أزقتها وشوارعها وساحاتها وبناياتها وأناسها الكثير من المحن والخراب يوم غادرها هاربا من الحرب..
مدينتي أصبحت أمامي عجوزاً مريضة، وأنوارها التي كانت تبهرني في الأمسيات الدافئة تتراقص بجنون فوق الواجهات، أو تجثم ببلادة على أعمدة طويلة. وشلة الأصدقاء.. ندماء المدرسة والمقهى والتسكع.. أصبحت أمقتها.. أصبحت غريباً بين أفرادها.. بدأت أحس بسكاكين تمزقني في قهقهاتهم الجوفاء وهي تنفجر في وجهي حمقاء بلا رجولة، كلهم بدوا أمامي ضائعين في ثيابهم وفي أشيائهم الأخرى الصغيرة..
كانت أصوات الجيران على الأسطح تختلط بالأصوات الأخرى المنبعثة من الزقاق:الحرب انتهت..!
وقفت في الشرفة قليلاً، زايلها بعض الخوف وهي تودع أخر طائرة معادية بيعض رصاص من بندقية زوجها الشهيد.. كانت أصوات الجيران تتناهى إلى أذنيها ، فقررت ألا تهبط
صعدت درجتين بحيث أصبحت خلف الشباك المطل على الزقاق .. دفعت درفة الشباك ونظرت من خلال خشب الخص إلى أسفل..ابنها عاد..يالله ..!
شبان الحي يرابطون في أول الزقاق وهم يتحدثون بأصوات مختلطة لم تفهم منها سوى كلمات متناثرة..دكانها على ناصية الزقاق مفتوحة كعهدها به انتهت الحرب..!
ولكن ليس في الزقاق ما يدل على أن الحرب انتهت
سوى ابنها الوحيد الذي عاد للمدينة .
في اليوم التالي ذهب يتفقد أصدقاء الطفولة لم يكن قد دخل مقهى منذ زمن.. فهو ليس من زبائن المقاهي، صفت فيها مقاعد جلدية مستطيلة ومتقابلة..
وألصقت على الجدار الأيمن مجموعة من الصور الملونة .أما الجدار المقابل كتب سعر الشاي، وهو المشروب الوحيد في المقهى، أما الثاني فيرجو الزبائن عدم إيداع أمانات في المقهى..
وفي منتصف المكان عدة الشاي يقف أمامها صاحب المقهى بصدارته القذرة ويديه المبتلتين وبقايا سيكارة لا تفارق شفتيه...
جلس صامتاً ينظر إلى الصور المعلقة بانتظار الشاي.. احدهم كان يتحدث: نحن في زمن خاسر.. في زمن ردئ.. لم يتمالك نفسه.تذكر سنوات الغربة والفراق والبعد عن محن المدينة ,والغياب عن حضن الوطن الدافئ
صرخ به:
لا تصدقوا هذا الكلام ..
لا تقولوا أن دماء الشهداء لا تروي التراب وإنها ستورق أشجارا يوما ما.. !!
آخر فرسان القافلة..! ، بقلم / عقيل هاشم
مراجعة بواسطة عبده جمعة مدير تحرير رؤية قلم
في
8:20:00 م
التقييم: 5
ليست هناك تعليقات