شيطان آدم.
وقف بأبواب ديارها ينادي و يتوسل لها النزول إليه ، و هو شامخ بين
رياح الطبيعة كالزئبق بين الهدوء تارة و تارة أخرى غضبا يهتز بين حرارة أفعاله ، و
برودة تفاعلها مع النداء ... فتتراقص أنفاسه بين مدّ و جزر لما جُبِل عليه من
أقدار تعلوا طبقات عناده أحيانا ، و دركات الحنين لها أحيانا أخرى ، أما هي فمكثت بديارها و أقفلت نوافذ صرح
الصدى حتى لا يتأتى لآذانها صوت النداء ، فحصنت ديارها بما أتتها العقلانية من
تشبث بكل أشيائها الأصلية التي توارثتها عن الأجداد فتمسكت بعمود الحداد لزهور
الحياة ، فجعلت لقناعاتها أسوارا مرصّعة بماس التلقائية لطبيعتها و ذاتها المميزة
، فرشت الأرضية بألوان النقاء و الأناقة ، و ألبست جدرانها نمو الطبيعة بين الأمل
و السعادة التي كانت تشكلها من زاوية أفكارها ثقة و جدية لا رجعة فيها ، و كذا
الحب و الجمال و الأنوثة لحن رمنسية بين السذاجة و النضج ...
هيهات لشيطان آدم حين اخترق جدران الصمت و التجاهل فتغلغل أعماق
الديار المرصنة ، من ثغرات لم تنتبه لها و لم تعرها أهمية ... ثغرات باتت بعمق
ديارها أنينا لضماء الأبجدية ، صماء لأحرف ندية، آفاقها أشعة من صحف سمية لارتواء
جفاء الإنسانية ... لطالما كانت تداري تلك الثغرات بوشاح الإكتفاء و رمز الأنوثة
الأبية ...
نعم إكتشف ضعفها و تسلل كما المياه بكهوف الجبال و الأدغال ... حرك
الفطرة أعماقا ، فرقّت لصوت رخيم و عقل رجيم و قلب رحيم ... ، رقّت لصوت الإحتواء
و الكمال ، و لا يكتمل البدر إلا خداعا لمسافة البصر التي عشّتها أكذوبة أمل سراب
... فقد تعوّد المرء تجميل ما يفتقده و ما يتمناه و يرجو الحصول و الوصول إليه ،
تعوّد أن يرسم هواه و ما يشغله بريشة آمال تفتقد البصيرة كما يحلو له...
بات كالقطرات يصبّ بوعاء ضعفها رويدا رويدا ، و في كل مرة تتصلب و
تتشبث بأشلائها و أشيائها الموروثة و التي قنعت بوجودها بمحيطها الجوهري ... و
القطرات تتسرب أعماقها تاركة أثرا ينقش سبيلا فتتغلغل أكثر بالذات المبعثرة بين الأحرف المبهمة و الفواصل
القاتلة أمام كل مواجهة و مجابهة للحياة تخرّ أرضا تستمدّ القوة بعد ضعفها ...
... وهكذا أضحت تفكر
بالإحتواء ، تفكر بحصنها العاجي المرتّب بأدراج من بلّور ماسيّ منقوش برياحين
البراءة ، و ثقتها من بريق الشمس الربيعية الزاهية بألوان السعادة المؤقتة ، و كان
يترقب ذاك البريق النفيس لعله يجد به ما يشوّهها والحيرة بين درجات العقل و دركات النفس
، و قد زيّن شيطان آدم هذه الدركات بساط الروح لمتعة الجروح ...
نعم هكذا زينها و نظراته تترقب الوقار ، راجيا منها التراجع و النزول
إليه منتظرا لذّة الجراح بعد متعة الأرواح ، فقد أعدّلها نبيذ سمِّ أفعى الحنين
... أحاط زوايا كونها و تعمق بأدق تفاصيله ، فنسج شراكه بإحكام ليغيّر قِبلة
قناعاتها و تناسى أن جذورها ممتدّة آفاق السماء ، فتتصاعد قناعاتها درجات الانا وقارا
... و هو جاهل لا يدري ...
رقّت دموعها لذلك الصوت الرخيم ، رقّت فترددت أن تجيب النداء ، و
كلها اعتبارا لكيان الذات و جذور الحياة ، و ترددت خوفا من زلّات الشجن ... فكيف
لها أن تجابه طيفا رقيقا بأضلعها دفين ؟ ...
هطلت قطرة أخرى و ليست بالأخيرة لتمسح أثر التردد و تنقش ثقة وعودٍ
سراب ... لم تنحني لكنها استحبت المغامرة و التجريب و بقيت على حذر من التجريد ...
صقلت هويتها بنار صوت السماء حتى لا تزلّ أقدامها ... أيعقل؟؟ و هل ستثبت أمام
المغامرة ؟ أم أنها غارت لشيطان النداء ؟ ... هل ستستجيب لشيطانه و تجعل إليه
شراع قِبلتها أم أنها ستتمسّك و تتشبّث بحبالها العاجية بما نسجت من عقلانية الوجود
؟
ترصّد أوّل خطوة ،و خطط لآخر خطوة لمسار النزول...هكذا كان شيطان آدم
أذكى في متعة الخداع بثورة المتاع لدُنيا الضياع
شاردة كانت تبدو ، تارة تائهة و تارة ثابتة متمرِّدة ، حيرة حرّكت
قدميها لأول دركات، على أنغام ذاك الصوت المميّز ، نظرت خلفها لبريق البلّور و
العاج ، و راحة ديار الأصالة حتى أنها كانت تتوحده لغرابة انتمائه بين ديار التغيير
فكان يتميّز بالثبات بدنيا الصخب ... تتأرجحها الحيرة بين مغناطيس يجذبها لنعيم
التراث و سكينة هويتها التي كانت تستنشقها بكل فجر عتيق يشرق شخصها إنسانية من
طراز نادر ... و كذا تناغم الصوت على ذبذبات تلف أريج أفكارها و أنفاسها على أثير
النبض القاتل ...
و هو بعيدا على حافة أصابع قدميه تتسلل أنظاره إليها ، يترقب ترددها
بين الإقبال و الإدبار ... يعزف ألحان الإحتواء و يرسم لوحات الإنتماء بذكاء ذئب
آدم هكذا كان يحاصر عالمها ، لاستدراجها فريسة أو سبية الهوى بين يديه فألهمها
كنوز العبير و حملها على بساط أحلامٍ اجتثت من سراديب عرق سرمدي ... و لم يكن يعرف
للأصالة عرقا أو صليل ...
نعم ترقب كل زوايا عالمها ، و تعمق بأدق تفاصيله ، فشرع بنسج شراكه
باحكام ، ففكر بتغيير قِبلة قناعاتها ، و بات يتسائل هل ستستجيب و تجعل إليه شراع
قِبلتها ؟ أم أنها ستتماسك بما ورثته من عقلانية الوجود...؟ و هو يجهل أن جذور
قِبلتها ممتدة أدغال الحضارات...
تحركت خطوة و لم تكن نحو النزول ، بل تراجعا أمام ذاك الصوت الدفين
بين الوريد و الوريد ...
شيطان الممات أم ذئب الحياة ، ألا تعلم أن حواء نقشت أنوثتها حياءً
بمرآة الجفاء ؟
ألا تعلم أن قلبها نبض لاستمرارية الإنسانية على أرض زرعتها سنابلا
لكلّ شاردة ذهنية ؟
ألا تعلم أن من يحرث أرضها ،قد أوتي من أبجدية الأصالة و الحرية آفاقا
للإنسانية ؟...
ليست هناك تعليقات