أحدث المواضيع

صندوق العروس بقلم / الأستاذ علي الشافعي

صندوق العروس بقلم علي الشافعي
صندوق العروس يا مْعبّا احلام والكحل والحنّا وبريش النعام
طالما دغدغت مسامعنا هذه الاغنية التراثية التي تزين حفلات الخطوبة والزواج في مدننا وقرانا وبوادينا , لكن المثير ان الكثير من ابنائنا الذين يتراقصون على انغامها الرائعة ربما لا يعرفون المعنى والمبنى لهذه الاغنية , واظنهم ما راوا وما سمعوا اصلا بصندوق العروس . ولمعرفة ما هو صندوق العروس , وكيف كانت تجري مراسيم الزواج في عهد ابائنا واجدادنا , وهي بالتأكيد تختلف عن الطرق المتبعة في هذا العصر العجيب عصر الانفتاح والعولمة . تعالوا اذن ــ يا دام سعدكم ــ نبدأ القصة من اولها , بعد ان تصلوا على الحبيب المصطفى :
في يوم من الايام كنا على اعتاب امتحان الثانوية العامة , وقد حدد كل واحد منا تقريبا وجهته بعد ظهور النتائج , حيث لم تكن الجامعات متوفرة في الضفة الفلسطينية لنهر الاردن , والتي وقعت تحت الاحتلال عام 1967 سوى جامعة بير زيت , وكانت لا تستوعب الا القليل من الطلبة . والحقيقة كنا نود الدراسة الجامعية في خارج الوطن المحتل لسبب اخر, وهو ان ننفكّ من ذلك السجن الكبير الذي وضعتنا فيه قوات الاحتلال , ولا سبيل للخروج منه الا بالدراسة الجامعية في الخارج . ونحن سكان الضفة الفلسطينية كنا نحصل على جواز السفر الاردني ( وهو بمثابة الجنسية) والذي يسمح لنا بالسفر الى اي بلد في العالم , وكذلك شهادة الدراسة الثانوية العامة من وزارة التربية والتعليم الاردنية , بموجب قانون الوحدة بين الضفتين عقب نكبة 1948.
بدانا نجهز الاوراق للحصول على الجواز , وكانت المعاملة تتطلب جواز سفر الوالد وعقد زواج الوالد والوالدة بالإضافة الى شهادة الميلاد , ثم ترسل المعاملة عن طريق وسيط الى عمان للحصول على جواز السفر . يومها اخرجت الوالدة علبة من الصفيح كانت تضعها في الرف العلوي من النملية ( خزانة صغيرة بدرفتين ) , وجلست انا وهي على الارض نتفقد الاوراق الرسمية التي كانوا يحتفظون بها . وطبعا الوالدة امية لا تقرا ولا تكتب , فقط تناولني الاوراق بفرحة غامرة , فابنها سيحصل على جواز السفر وسيذهب للدراسة في الخارج . بدانا التنبيش حتى حصلنا على ما نريد . ومن باب الفضول فتحت عقد الزواج واخذت اقرا , الى ان وصلت الى المهر , حيث لفت نظري ان المهر بكامله عشرون دينارا , لا مؤخر ولا توابع , قلت مستغربا : يامّا أهذا هو مهرك ؟ عشرون دينارا ! قالت : نعم , قلت مستغربا : لكنه قليل , ماذا يمكن ان تجهزي به ؟ قالت : يا ولدي هكذا كانت المهور على ايامنا , بين العشرين والخمسين , انت يا ولدي تتحدث عن سنوات المحل التي تلت نكبة 1948. قلت : هل هذا المهر كان يكفي لتجهيز العروس ؟ قالت: نعم يا وْليدي على زماننا كان يكفي ويزيد . يا ولدي على زماننا كانت ليرة الذهب الإنكليزي او الرشادي ( العثماني) وزن عشر غرامات بدينار اردني بعني يمكن ان تشتري عشر ليرات ذهبية مع الخاتم والحلق بعشرة دنانير , تعلق على شكل قلادة في خيط كتان اسود , ثم تشتري العروس ثوبين او ثلاثة من بينها ثوب العرس الذي عادة ما تطرزه بيدها بالحرير خلال اشهر الخطوبة حسب ذوقها , بمبلغ لا بزيد عن خمسة دنانير . ثم صندوق العروس وما يحتويه ملابس العروس وادوات زينتها والمناديل المطرزة وغطاء الشمعدان ( مصباح الانارة قبل عصر الكهرباء) وغطاء شّربة الماء الفخارية. قلت : انا اتذكر هذا الصندوق لكن احب ان اسمع وصفك له . قالت : وهو صندوق من الخشب المزخرف حول المتر طولا ونصف المتر عرضا و80سم ارتفاعا , له غطاء مزخرف بقفل صغير , تضع فيه العروس حوائجها الخاصة , وتتفاخر بجمال زخرفته , يحمل معها يوم زفافها الى بيت زوجها , وهذا الصندوق كان يكلّف ايضا بأدوات الزينة خمسة دنانير في اغلى حالاته , حسب الزخرفة ونوع الخشب , قلت وغرفة النوم والجلوس والادوات الكهربائية , قالت : يا ولدي هذا الصندوق سد عن خزانة غرفة النوم , اما السرير ففرشتان من الصوف بلحافين تفرشان على الارض ليلا , وفي الصباح ترتبان على شكل زاوية قائمة لاستقبال الضيوف , والادوات عبارة عن قدر صغيرة وبعض اللاعق والصحون وكوز ماء واريق شاي وبعض الكاسات وغلاية قهوة بفناجينها , اما الشمعدان فتحرص العروس على احضاره معها من بيت اهلها , هذا كل شيء وصلى الله وبارك , يعني باختصار لا يتكلف الزوج فوق ذلك شيئا . وفي العادة تقوم الام بتجهيز بيت ابنها مما هو موجود تحت يدها . قلت : وحفلات الزفاف ! سمعت السهرات كانت تقام ثلاث ليال وربما سبع , تذبح الذبائح وتقام الولائم ويأكل الجميع , قالت : يا بني في ذلك الزمان كان التكافل على اصوله , كل من يحضر العرس يُحضِر معه حسب قدرته من المتوفر في بيته فمنهم من يحضر الذبائح ومنهم من يحضر الارز واللبن والسمن والسكر والشاي والقهوة , والعريس لا يتكلف شيئا حتى الفاردة التي ستذهب لإحضار العروس كانت على الدواب يخصص جمل لتركب العروس في الهودج حتى تصل بيت زوجها .
جعلت كلامها مدخلا لعدة تساؤلات تتعلق بالحياة الاجتماعية لناس ما بعد النكبة قلت : يا امي هل كنت تعرفين الوالد قبل الزواج ؟ قالت لم ار صفحة وجهه الا بعد الزواج بأيام . اعتدلت وارخت سدولها وبدا وجهها بالاحمرار استعدادا لإكمال ما بدأت به , قالت : اسمع يا ولدي الزواج اقدار , وليس شرطا ان يعرف كل منهما الاخر حتى يكون الزواج ناجحا . وانما ان يرضى بما قسمه الله له , ويعرف واجباته فيؤديها قبل المطالبة بحقوقه . علمت يوما ان عريسا جاء لخطبتي , ومواصفاته وافق علها اهلي وتمت الخطبة , وبعد شهر من الخطبة حضر . توقفت عن الكلام واحمر وجهها اكثر ثم اردفت جاء مع جدتك لزيارتنا , وسمعت صوته ينادي على خالك , وكان في عرْفنا في ذلك الوقت لا يجوز ان يرى الخطيب مخطوبته , فخرجت مسرعة مرتبكة من النافذة , وهربت باتجاه بيت عمي فتعثرت ووقعت على وجهي , وسال الدم من فمي , وبعد الزواج بقيت عدة ايام لا انظر اليه خوفا وخجلا , كنت اذا سمعت وقع نعاله قادما يدق قلبي رهبة وهيبة . قلت : وهو الم يرك ؟ معقول يشتري سمكا في بحر ؟ قالت : لا يابني , الرجال غير , علمت بعد ذلك انه راني بالاتفاق مع اخي عن بعد وانا املا الماء . قلت : كم كان عمر كل منكما ؟ قالت : انا كنت خمسة عشر عاما وهو ابن ثمانية عشرة .
اقول : ايها السادة الافاضل كان الله في عون شباب هذا الجيل , يتخرج الشاب ليجد نفسه يعمل براتب بحدود 400دينار , ومطلوب منه قبل ان يتقدم لخطبة اية فتاة ان يجهز بيت الزوجية , فبنات اليوم يرفضن السكنى عند الاهل , بحجة الحد من حرية الزوجة , فلا بد من بيت مستقل , واللي ما معه ما بلزمه , يدخل بعد ذلك في قضية المهر واقله خمسة الاف مقدم ومثلها مؤخر , ثم غرفة النوم وغرفة الضيوف والكهربائيات الثلاجة والغسالة الفل والتلفاز والمكنسة والمكيف وادوات المطبخ وهذه التكاليف اكثر من المهر , ثم يأتي دور حفلة العرس في الصالة الفلانية بالمبلغ العلاني , و معلش حبيبي احنا مش كل يوم بنتزوج , ثم الصالون وحده قصة لا تقلّ اجرته عن الف دينار من بدلة الفرح , ثو السهرة والغداء والتعليلة (..و و و ) طلبات على راسه , لها اول ما لها اخر , وادفع يا حبيب امك , لتفيق المستورة في الصباحية لتجد نفسها وقد حمّلت زوجها ديونا كثيرة سيسددها من لقمة عيشهم لينتهي بهم المطاف الى زمرة الفقراء او على ابواب المحاكم الشرعية . طبتم وطابت اوقاتكم .

ليست هناك تعليقات