أحدث المواضيع

أنين البوم بقلم حنين فيروز


قصّة قصيرة ____ " أنين البوم"
حملت هنيّة موقد النّار وركلت باب الغرفة،وضعته فوق الحصير ثمّ هرولت ثانية إلى المطبخ لتجلب القدر وجلست القرفصاء لتشرع في تحريك الحساء،التفتت إلى ركن الحجرة حيث تتمدّد تحت لحاف صوفي عجوز نحيفة ذات عينين غائرتين في العقد السابع من عمرها وصاحت بصوت عالٍ :
 _"حالا سيجهز الحساء يا زوجة أبي..أخيرا ساد الهدوء في البيت بعد رحيل قريبتك المزعجة،كما يقولون لا يبيت في القبر إلاّ صاحبه"..
 كانت هنية إمرأة في عقدها الخامس،طويلة القامة قويّة الساعدين،مكتنزة الوجه،غليظة الشفتين،سوداء العينين،حدّقت هنية في القدر ولمعت عيناها وهي تحمل المغرفة عاليا ثم تعيدها إلى القدر،ثم ما لبثت أن قامت واتجهت إلى ركن الغرفة،أخرجت مفتاحا من ثنايا ثوبها وفتحت الصندوق وهي تدندن بأغنيتها المفضّلة..
_"أنا عندي ميعاد،هذا سرّ لا يعرفه أحد،إسمها السعدية،،هي سيدتي سعاد.."
 قست أسارير العجوز وهي تراقب هنية تفتح صندوقها الذي ما كانت تجرؤ يوما على الاقتراب منه،أخرجت قفطانا حريريا أخضر وآخر أبيض مطرّزين،مددتهما على الأرض وشرعت في تقطيعهما أمام ناظر العجوز التي بدأت تئن بصوت مسموع..تابعت هنية أغنيتها وأيضا تقطيعها للفستانين وتحريكها للقدر في آن واحد،ثم ما لبثت أن أطفأت موقد الغاز،وبعد انتهائها من التقطيع شرعت في طيّ قطع الثوب بعناية وخاطبت العجوز :
 _"غدا سآخذ هذه الثياب لصديقتي السعدية،مرّ أسبوع لم أزرها فيه،الأشغال بعد مرضكِ صارت كثيرة.. كثيرة.."
تطلّعت العجوز إلى السقف،بينما عيني هنيّة تراقبانها كالصقر..همست هنيّة بصوتٍ كالفحيح :
 _"تتمنّين الموت يا خالة؟ فليحفظكِ الله، لابدّ أن يكون عمركِ طويلا،سأقوم لأطعم دجاجاتي قطع البسكويت الذي رشتني بها قريبتك البغيضة وبعدها سأعود لنكمل حديثنا.."
 تناهى إلى سمع هنيّة صوت الجارة قادمة رفقة زوجة ابنها،فسارعت لإخفاء قطع الثوب الممزّقة في الصندوق الخشبي،مرّت بجانبهما كأنّها لم ترهما،جلست في الحظيرة تفتّت قطع البسكويت للدجاجات ،وتطرد الذباب عن قدميها الكبيرتين وتدندن أغنيتها المحبوبة..
_"مساء الخير جارتي زهور،الحمد لله أنّ هنيّة المجنونة تؤنس وحدتكِ.."
 تابعت الجارة استفسارها عن أحوال العجوز التي كانت تكتفي بتحريكِ رأسها من آن لآخر،مالت على كتف كنّتها هامسة:
 _"كلّما التقيت هنيّة المجنونة أشعر بالكثير من الأسى على حالها، منذ أربعة عقود كانت طفلة صغيرة توفيت والدتها ثم تزوج والدها زهور التي أذاقت هنيّة صنوف العذاب،لم تكن تنعتها سوى بالغبية أو المجنونة كأنها كانت تعرف مصير ربيبتها.."
قاطعتها الكنّة بصوتٍ خافتٍ: _"لكن كيف فقدت هنيّة عقلها؟"
تنهدّت الجارة وهي ترمق العجوز الشاردة بنظرات حادّة ثم قالت :
_ "أهل القرية  يعتقدون أنّ موت صديقتها المقرّبة السعدية ذهب بنصف عقلها ثمّ طار النصف الباقي ليلة زواجها بحمودة..حمّودة ابن عمّ السّعدية كان يحبّ هنيّة ويشفق عليها من قسوة زوجة ابيها،لطالما اعترض سبيل والدها طالبا يد ابنته لكنّ زوجته عارضت الأمر وبشدّة.."
توقفت هنية عن كنس باحة البيت حين وصل الحديث إلى تلك النقطة وتسمرت في مكانها بلا حراك..
 _"الله وحده يعلم ما الذي حدث يا ابنتي،في ليلة العرس فرّت هنيّة من عريسها واختفت وحين عادت في اليوم الثاني عادت مجنونة ،نظراتها زائغة وملابسها ممزّقة وشعرها أشعت،لفّ بها والدها الأضرحة والمشايخ بدون فائدة،لم ينجح أحدٌ في انتشالها من أتون الصمت والشّرود،لقد كانت تقفل عليها حجرتها لأيام ولا تغادرها إلا ليلا لتزور قبر صديقتها السعدية.."
توقفّ الجارة عن الحكي وهمّت بالوقوف وهي تجذب يد كنّتها قائلة :
_"الشمس قاربت على المغيب والعشاء لم يجهز بعد،جارتي زهور سنعود لاحقا ..قلوبنا معكِ."
 تركت هنيّة المكنسة تسقط من يدها ودخلت الغرفة بعد رحيلهما،اقتربت من زوجة والدها وأفرغت محتويات الكيس الصغير ،أخذت من كلّ علبة دواء حبة واحدة وأعادت الباقي إلى الكيس بينما زوجة والدها تراقبها بحيرة،وضعت الحبات فوق الأرض العارية في جانب من الغرفة وسحقتهم بحجر ،وهي تتمتم :
_"هذه الأدوية مجرد سموم يا زوجة أبي.."
صبّت الحساء في صحن مقعّر ووضعته في صينيّة وانبرت تقول :
 _"سعديّتي الجميلة كانت تحبّني وتحبّ حساء الطماطم ،وابن عمّها حمّودة لم يكن يحب الحساء لكنّه كان يحبّني وهنيّة الغبيّة لا تعرف،لكنّ السّعديّة تعرف بل وتخفي عنّي أمر القفطانين.."
وضعت هنيّة إصبعها فوق صدغها وتابعت :
_"لو كان لدى هنيّة عقل هنا لفهمتْ،لكنها أدركتْ الأمر بعد شرب السعدية للحساء.."
 شحب وجه العجوز بشدة وجحظت عيناها خوفا لكنّها لم تحرّك ساكنا..عادت هنيّة تغني ثانية ثم توقّفت بغتة ،اقتربت من العجوز وجلست إلى جوارها وصاحت وهي تنزع منديل رأسها وتفكّ ضفيرتيها الطويلتين :
 _"لكنّها أخطأَت حين نعتتني بالغبيّة،أما حمّودة فلم يقلّل من شأني أبدا وبالتالي لم أعدّ له حساء الطماطم،أعددته فقط للسّعديّة،فبدأ بريقها يخبو رويدا رويدا..وماتت..هكذا فجأة!"
 بانت آثار الصدمة على وجه العجوز وسرعان ما انهمرت الدموع من عينيها وبدأت تئن بأعلى صوتها وهي ترى هنيّة تحمل الصحن وتقترب منها،أغلقت فمها بقوّة بينما هنية تحاول فتحه وهي تدندن بأغنيتها الوحيدة،بعد لحظات يئست من العجوز وهزّت كتفيها قائلة :
_"أنتِ حرّة..حتى الجوع يقتل على المدى البعيد.." قهقهت عاليا واسترسلت :
 _ "في ليلة العرس أهداني حمّودة ثوبين أحدهما أخضر والثاني أبيض،ابنة عمّه السعديّة صديقتي وحبيبتي هي من قامت بتطريزهما لأجلي..لأجل زفافي أنا..لكنّ الخالة زهور أو بالأحرى الخالة أشواك كانت قد تدخّلت وأفسدت كلّ شيء.."
 قامت فجأة من مكانها وبدأت تطوف الغرفة وترقص بشكل هستيري وخصلات شعرها تتطاير في الهواء بينما أخفت العجوز وجهها بيديها وشرعت في البكاء..
ارتمت هنيّة على الأرض بلا حراك للحظات ثم رفعت رأسها وقالت بغضب :
 _ "أنا وأنتِ مجرّد بومتين تعيستين في هذا الخراب ولا ينقصنا سوى زلزال يجعلنا في باطن الأرض ،وتنتهي الحكاية.."
 أعادت ترتيب الغرفة بهدوء،وأطفأت نورها،ونامت أسفل قدمي العجوز الخائفة كطفل وديع.
بقلم حنين فيروز
27/03/2017

ليست هناك تعليقات