الخطيبة / بقلـــــم: على الميهى
لم تكد تشعر بخلو الطريق من المارة، وصعود منتظرى الحافلة تاركين لهما مقاعد موقف الانتظار خالية، حتى ألقت بكل ثقلها على جانبه الأيسر، مسندة رأسها فى استسلام على كتفه وهى تتدله فى حبه.. فاستجاب لها وأحاطها بيده اليسرى ملصقا إياها به أكثر. تتصبب على رقبته، وتدريجيا تتجمع القطرات حول خديه، وأسفل شفتيه لتغطى جبينه ووجهه كله، ويرد على انتفاضة جسدها الحار بانتفاضة أعظم..
لأول مرة منذ خطبتهما وعقد قرانهما يضمهما مقعد واحد.. ليس هذا فقط، وإنما تلتصق تلك المساحة الشاسعة من جسديهما التصاقا- هو إلى الالتحام أقرب منه إلى التماس- ودخلا فى حوار جسدى ووجدانى صامت، لغته تقارب جسديهما الشديد، وارتخاء عضلات يديه على مقطع خصرها، وذلك النشيج الذى ينبئ على قلبين نال منهما البعد، واستبدت بهما الرغبة الطاغية فى الالتقاء..
وزايلها ذلك التحفظ الذى كان يشملهما حين تلتقيه فى بيت أهلها حال زياراته العابرة لهم.. كانت ترى أختها التى تكبرها بعدة أعوام تبتدع أعذارا شتى لتلتقى بخطيبها وتنفرد به- فى بيئة محافظة جدا.. ماتزال تفرض قيود التقاليد قوانينها الصارمة وترى فيها حماية للفتى والفتاة إلى أن يضمهما بيت واحد، يعزز ركنه شرف المقصد، ونبل الغاية، وفوق ذلك سنة الله ورسوله لتكون سكنا له ويكون سكنا لها فى بيت دعائمه المودة والرحمة والشفقة والتحنان.
وكان من أهم ما تتذرع به أختها أن تدعى المرض.. ذلك النوع من المرض الذى يستهوى الفتاة فى مرحلة يأذن لها الزمن باللقاء بمن يحل له أن يقترن بها.. ذلك النوع من الدلال الأنثوى الطاغى الذى يجعل من الفتاة كائنا رقيقا خجولا يكاد يطير من فرط افتعال خفة الروح التى يصطنعها.. لايختلف فى ذلك قبح دميم أو جمال عميم.. وإنما هو رواء يعترى الفتاة فى تلك السن الحرجة- الذى تنضو فيه ثوب المراهقة، لتنطلق إلى عالم الأنوثة الكاملة بما يموج به من مشاعر فياضة وخيالات وردية، وأحلام بيضاء تذهب بها إلى عوالم سحرية من العشق والهيام..
كان المرض إذا هو أكثر الذرائع اقناعا وأسهلها اتقانا على الفتاة المخطوبة التى تحوز بسهولة على عطف المحيطين بها وشفقتهم.. وبينها وبين نفسها تريد أن ترضى غرورها الأنثوى، وتشبع نهمها إلى الحب بأن تكون محور اهتمام محيطيها.. ومن ثم تصل هدفها الرئيس، لتشعر بقرب خطيبها وفتاها وبكل مشاعر الاهتمام بها والحدب عليها، وبذل كل غال ونفيس لتلبية رغبتها..
وهى فوق ذلك كله تختلس لحظات تشبع حرمانها فى الالتقاء بفتاها الذى يبادلها وجدا بوجد وهمسا بهمس، والتصاقا بالتصاق.. لايقل عنها إيجابية فى ذلك كله.
عرفت فتاتنا انشغال أهلها فى شأن من شئون تدبير المعيشة لترسل أخاها الأصغر لفتاها يخبره بمرضها وحاجتها إلى زيارة الطبيب فى مستشفى المدينة المجاورة.. وبأن أحدا من أهلها لايستطيع اصطحابها..
لم يكد خطيبها تصله الرسالة.. حتى لبى مسرعا.. فقد وجد هو الآخر فرصة سانحة.. وبالفعل اصطحبها وهى طوال الطريق تتقن دورها فى حبك رواية مرضها وتتأوه كمن يسرى الألم فى كل أعضائه.. وكلما بادلها الحديث أجابته بصوت خفيض يحوى إيماءات وإشارات أكثر مما يحوى كلمات.. يغلف ذلك كله دلال رقيق ونظرات غضة خجلى أضعفتها أنوثة تسرى فى كل خلجاتها، وتتجلى واضحة فى كل حركاتها وإيماءاتها..
لم يكد الطبيب يفرغ من فحصها حتى بادرهما ضاحكا: أنصحكما بالتعجيل بالزواج فإنه علالج ماجئتما تشكوان.. فبادلاه ابتساما بابتسام.. وقفلا راجعين إلى موقف الجافلة لتسند رأسها على كتفه وتلفها اغفاءة لم تر حلاوتها.. ولم تحس روعتها من قبل.. لتفيق على صوت أثر كابح عجلات الحافلة وهى تتوقف أمامها ..،.
ليست هناك تعليقات