( مقطع من رائعة الأدب المصرى (جنيّة البحر) ..المؤلف/عمرو زين

من العمل الأدبى ( جنيّة البحر )
الناشر / مكتبة مصر ..المؤلف/عمرو زين
********
( مقطع من رائعة الأدب المصرى (جنيّة البحر)
*******************
اعتدت و أنا صغير أن أذهب بصحبة أقرانى من أبناء الحى كل ظهيرة من أيام الصيف القائظ للعوم فى البحر،للحقيقة لم أعم مرة واحدة فى حياتى و لم تكن لى دراية بالعوم على الاطلاق الا أنى لم اتخلف يوما عن الذهاب معهم،عهد الى أقرانى بالوقوف على الشط لحراسة ملابسهم حتى يفرغوا من عومهم فنعود جماعة الى بيوتنا،و فى ذاك اليوم تركت أقرانى و هم منغمسون انغماسا فى العوم و اللهو فى الماء حتى انهم لم يدروا بما يدور حولهم و خلفت ورائى ملابسهم التى أولوا الى حراستها غير مبال بمصيرها الذى قد تئول اليه و ذهبت لاصطاد العصافير بالنبلة،على أنى لم أجد أبدا صيد العصافير بالنبلة ولا بغيرها و لكن رغبة عارمة فى الصيد اجتاحتنى ساعتها فأخذت تدفعنى من شجرة الى شجرة و تحملنى من غيط الى غيط و ما هدأ فوران الرغبة فى نفسى الا بعد أن انقطع سير النبلة، حمدت الله فى سريرتى فما كان ليوقف اندفاعى الا شيىء واحد،و ها قد وقع بالفعل،و خيرا لى أنى لم أنجح فى صيد و لو عصفورة واحدة، فلو أنى دخلت على أمى حاملا العصفورة وراء ظهرى ما كانت لتسكت عن معايرتى،و مقارنتى بغيرى من أقرانى ممن يصيد الواحد منهم بالعشرين عصفورة و أكثر فى كل رحلة صيد.... تنبهت على نعير جاموسة وجدتنى واقفا أمامها، الجاموسة تحدجنى بنظرات وجسة، شعرت و كأنها تقول بينها وبين نفسها(أى غريب هبط علينا الساعة؟! ) و لكن هذه النظرات ليست بالغريبة على فأنا لا ألقى جاموسة فى أى مكان كان دون أن تتوجس منى خيفة وتظل ترقبنى بنظرات قلقة، و الجاموسة التى أمامى ليست استثناءا بالطبع فلابد أن زميلاتها أخبرنها بما كان بينى و بينهن من امتطاء لظهورهن أو جرهن من أزيالهن أو التعلق بقرونهن و عبثا يحاولن التخلص منى و لا يخلصهن من يدى الا صاحبهن عندما يظهر من بعيد هائجا مائجا و ملوحا بالفرئلة فى يده و هو يصيح بكل ما أوتى من قوة:-أنزل من على ضهر الجاموسة يا وله!! ....
**************************************
مقطع من رائعة الأدب ( جنيّة البحر )
*************************
- أخرج من عندك !
خرجت من مخبأى رافعاً نبلتى و مبيناً عدم ضررها لما لحق بها من قطع ، وقفت أمامه صاغراً و يداى معلقتان فوق رأسى بينما يقف هو فى خيلاء واضعاً خنصر يسراه فى حزامه ، وراحة يمينه تعتمج على سيفه الممتد حتى الأرض .
- عدو ؟
- لا! صديق صدوق !
- سأجعل منك وزير .
- وزير؟! ..أنا وزير ؟! وزير من ؟
- ستكون لى وزير.
- و من أنت ؟
- أنا الأمير .
رفعت هامتى عالياً و مددت يداى إلى ياقة القميص لأفردها فلم أجدها فى موضعها " أين راحت الياقة ؟لابد أنها سقطت بين أعواد الذرة التى كنت أختبأ فيها." جذبت القميص و أخذت أحبك فيه و لسانى يردد :
- أنا وزير !..أنا وزير !
ثم سألته :
- و لكن ماذا يفعل الوزير يا مولاى الأمير ؟
- الوزير يرنم عندما يغنى الأمير.
- يعنى ماذا أفعل الآن ؟
- اتبعنى و رنم خلفى ! كلما غنيت شطراً ترنم أنت تا..را را!
- حسناً !
- هذه أول مهمة أكلفك بها .
- ستجدنى عند حسن ظنك يا مولاى الأمير.
- سأرى إن كنت لمنصب الوزارة أم لا .
- أصلح ، فأنا خير من يتولى المناصب العليا و أحسن من يرنم خلفك ، جربنى و ستجد كل ما يسرك يا مولاى!
مضى أمامى ملوحاً بسيفه و هو يغنى و أنا أصدر الترنيمات من خلفه :
- عمار..! عمار..!
- تا ..را را..!
- يحارب الأشرار !
- تا ..! را را..!
- ينصر الأخيار !
- تا ..را را..!
و أخذتنى نشوة الغناء فصرت أحرك ذراعى فى الهواء و كأنى قائد فرقة موسيقية و أقفز و أرقص و هو يغنى و يغنى :
- عمار !..عمار ...!
- تا !..را ..را !
- يحارب الأعداء ..!
- فى الأرض و السماء
- تا..را را !
- غنى معى ! أصدر لى أمراً أن أِاركه فى الغناء ففعلت و أنا ما أزال أحرك ذراعى فى الهواء ، ومن أثر النشوة خُيّل إلى أنّ الأشجار من حولنا تهتز طرباً لغنائنا و الطيور و العاصافير تزقزق لنا
- عمار!..عمار !
- يهزم الأشرار !
- ينصر الأخيار !
****************
ظللتُ طيلة الليل اتقلب فى افراش ذات اليمين و ذات اليسار محاولاً النوم و لكن لم يغمض لى جفن ، طيف المعركة المنتظرة ظل يطارد خيالى و أطار شبح النوم من عينى، وأخيراً خطر لى أن أصنع سيفاً مثل الأمير فابارز به كما يبارز بسيفه، قمت من مرقدى لأضع الفكرة فى موضع التنفيذ ، بحثت فى أركان البيت عن مواد تصلح لصنع السيف ، عثرت على عصا ملاقاة تفى بالغرض و جئت بعصا صغيرة و أحكمت ربطها بخيط الدوبارة على مسافة شبر من طرف العصا الكبيرة فصنعت بذلك مقبض السيف، ثم أخذت أحرك السيف فى الهواء و كأنى أبارز الأعداء فأم الوقوف عن يمينى فأثخنتهم جراحاً ، و أم الوقوف عن شمالى ففرقت شملهم و بددت جلهم ، رفعت بعدها سيفى عالياً و كلى إعجاب بما صنعت يداى " ولكن أين أعلق السيف؟ إنّ الأمير عمار يعلق سيفه فى الغمد المصنوع من الجلد ،فلأصنع لى غمداً أعلق فيه سيفى!"
عكف على الوبارة يقطعها و يربطها ، ويشدها و يمدها حتى انتهى من صنع ما أراد فربط الحزام حول وسطه و علّق السيف فى غمده ثم راح يقطع الحجرة ريحة و جيئة ، مرة يعقد يديه خلف ظهره و كأنه قائد حربى مقدم على خوض معركة فاصلة ، ومرة أخرى يستل سيفه و يحركه فى الهواء مبارزاً به حتى انقضى ثلثى الليل و بدء الوخم(الثقل) يعترى جسده و النوم يغالبه وهو يقاوم حتى خارت مقاومته و غلبه النوم و راح فى سبات عميق لم يوقظه منه إلا أمه فى صبيحة اليوم التالى لتسأله عن يد المقشة التى لم تجدها و هى تهم بكنس أرضية البيت ، أنكر أى علاقة بينه و بين اختفاء المقشة و فى قراره نفسه يتحسر لضياع الفرصة التى أتاحها له الأمير فى المشاركة فى المعركة الكبرى، لا يصدق أنّ النوم قد غلبه بالفعل و فوت عليه مثل هذه الفرصة التى لا تتكرر، وفوقاً عن ذلك فقد أفقده منصبه الرفيع الذى منحه أياه الأمير بأن جعله له وزير...
- أنطق يا واد !فين ايد المقشة ؟
فلما لم تحصل منه على جواب استسلمت للأمر الواقع و عمدت إلى المقشة البلح و هى لا تكف عن الشكاية من أبنها و من شقاوته دوناً عن أخوته و من المقشة البلح و ما تحدثه لها من آلام فى ظهرها.
***************
...
**************************************
مقطع من (جنيّة البحر)..المؤلف//عمرو زين...الناشر مكتبة مصر///..
********
كانت تماما كما وصفها الأمير آية من آيات السحر و الجمال حتى أنى لم أر طيلة حياتى ما هو أجمل منها قط ،شعرها يمتد وراء ظهرها أمتاراً ،ينساب مع الماء الجارى انسيابا ،بدأت تغنى للأمير فى صوت ملائكى ،عذب فكفّ الأمير (الصغير) عن البكاء ثم سألته:
- ما رأيك لو تأتى معى الى تحت الأرض؟
هزّ الأمير رأسه موافقاً على عرضها فأخذته الجنيّة وغاصت به تحت الماء ،حدث كل هذا فى لمح البصر، وقع ما كنت أخشاه ، ابتلعت الجنيّة الأمير و لن يعود بعدها أبداً ،يجب أن أفعل شيئاً ما حتى استعيده منها ، تشبثت بأحد الأغصان القوية المرنة و تدليت به حتى لامست قدماى المياه و أخذت أضربها بكلتا قدماى و أنا أصيح:
الأمير عمار! الأمير عمار!!...
ذهب صياحى أدراج الرياح .."لابد أن الجنيّة أكلته " ..،و بينما أنا معلّق هكذا بفرع الشجرة أفكر فيما آل اليه مصير صديقى اذا بالماء ينشق فى موضع قريب، حسبت أنّ الجنيّة قد أعادت الأمير ،و لكنى فوجئت برأس تطفو فوق سطح الماء و تقترب منى بوجه قبيح لم أر أقبح منه وجه ،..
" لابد أنه جنىّ ممن سمعت عنهم القصص على ألسنة أقرانى من أبناء الحى"..، برز الجنىّ فوق سطح الماء ثم غاص مرة أخرى و بقى مختفياً تحت الماء لفترة ،ثم ظهر بعدها واقفاً أمامى فوق سطح الماء و أصدر ضحكة مخيفة.
-:آه!آه!ألحقونى!ألحقونى!
انطلقت منى الصيحات و أنا أعمل جاهداً على تسلق فرع الشجرة محاولاً الابتعاد عن الماء و الهرب من الجنىّ الا أن الفرع انكسر و سقطت فى الماء بين يدى الجنىّ تماما.ً...
ليست هناك تعليقات