أحدث المواضيع

الكاتب عمرو زين مطلع العمل الأدبى( خادم المقام..!)





مطلع العمل الأدبى( خادم المقام..!) وهو الجزء الثانى من (الحلم الشارد) و الذى حمل جزئه الأول عنوان ( جنيّة البحر..!) للأديب/عمرو زين
قبضت أمى على يدى فى إحكام حتى لا أفر منها وسحبتنى ورائها سحبًا ففهمت على الفور ما تخطط له فلم أكف عن الصراخ طيلة الطريق أملاً فى أن تتراجع عما تنوى فعله وتنزل على رغبتى، ولكنها لم تستسلم فما كان منى إلا أن أخذت أبكى وأنا أتوسل إليها:
«الكتّاب لأ! الكتّاب لأ يا أمه»
«أنا مودياك كتّاب تانى».
«الشيخ هيضربنى، هيعلقنى فى الفلكة ويمدنى على رجليا».
«متخفش! كتّاب الشيخ أبو غالى مفيهوش فلكة».
«انت بتضحكى عليا، هوه فيه كتّاب من غير فلكة؟!».
«يا واد! دا أنا مودياك أحسن كتّاب فى البلد علشان تحفظ كلام ربنا وتتعلم وتتنور».
إلا أنها لم تنجح فى إسكاتى بهذه الكلمات المُطمئنة حتى وصلنا إلى الكتّاب ووقفنا أمام بابه العالى، خرج إلينا الشيخ مرتدياً الكاكولا والقفطان وممسكاً فى يمينه عصا خيرزان طويلة بعد نداء أمى مرات عليه، صمتُ على الفور لطلعة الشيخ المهيبة وخشية أن ينزل على بالعصا كما حدث معى فى الكتّاب السابق لصاحبه الشيخ إسماعيل أبو حبيب إذ مر على يومى الأول بين ضرب على اليدين أو ممدوداً على الفلكة ومضروباً على القدمين، كان الأمر أشبه ما يكون بحفلة ضرب أقامها لى صبيان الشيخ شديدى البنيان، طويلى القامة وعلى رأسهم عبد المعطى الذى لم يهدأ لى بال طيلة الأسبوع الذى قضيته فى الكتّاب حتى انتقمت منه إذ غافلته وهو يتناول غدائه ويحش أعواد الخس والجرجير حشًّا واعتليت كرسى الشيخ الذى خرج وقتها لصلاة الظهر وأخذت القلة الممتلئة بالمياه والمعلقة من أذنيها بحبل على الجدار فوق الكرسى وهبدت بها عبد المعطى فى رأسه فسال الدم منها مدراراً وهربت من الكتّاب وسط تصفيق وتهليل من أقرانى الصغار الذين انتشروا على الفور خارجين من الكتّاب مستغلين
الفوضى التى عمته بما أحدثته، ولولا ذلك لتمكن زملاء عبد المعطى القائمون على التحفيظ والتسميع لنا من اللحاق بى وما كانوا ليفلتوننى من بين قبضتهم إلا بعد إقامة حفلة صاخبة لتوديعى لا تقل بأى حال عن تلك التى حظيت بها عند استقبالى ، قادتنى قدماى بعدها إلى منزل صديقى عمّار ودخلت من الباب المفتوح ثم اتجهت إلى الغرفة المعدّة لاستقبال الضيوف حيث أخبرتنى أمه أنه هناك مع الشيخ الذى يقوم بتحفيظه القرآن، وقفت أمام باب الغرفة الموارب وأنا لا أكاد أصدق أذناى، إنه صوت الشيخ اسماعيل صاحب الكتّاب الذى هربت منه للتو، (كما أنه كان مدير المعهد الأزهرى فى بلدتنا كما عرفت من أمى فيما بعد) الشيخ يدعى إذاً أنه يذهب للصلاة ولكنه فى حقيقة الأمر يأتى إلى بيت عمار ليقوم بتحفيظه القرآن، خرجت متسللاً دون أن أشعر بى أحداً وسرت على غير هدى حتى وجدتنى أمام جامع أبى غنام فخلعت الشبشب من قدماى ودخلت منتوياً أن أبقى حتى يحين الموعد الذى أخرج فيه كل يوم من الكتّاب فأعود إلى الدار وبذلك لن تعلم أمى بأنى طفشت منه، وفى الغد قد أذهب إلى البحر للاستحمام أو أخرج إلى الغيطان المحيطة بالبلدة لأتسلق أشجار التوت الذى أعشقه ولو أنى سقطت آخر مرة منذ أسبوعين من على فرع تلك الشجرة ذات حبات التوت السمراء المتلألئة بينما كنت أمد يدى لالتقاطها فانكسر وسقط بى أرضاً، لم تكن هذه أول مرة فكلما تسلقت شجرة توت سقطت من فوقها إلا أن ذلك لم يردعنى ولن يردعنى عن هوايتى المفضلة فى التقاط حبات التوت سواء البيضاء منها كاللؤلؤ أو تلك السوداء كالياقوت أوالمرجان ، وبعد غد سأخذ الصنارة وأذهب لاصطياد الأسماك من الترع التى تشغى بها، ولكن ذلك يتطلب إحضار الطعم أولاً الذى اعتدت على استخدامه فى الصيد، ذلك الدود البنى الذى يعيش تحت الأراضى الرطبة بفعل مياه الرى، ولكن كيف اتجنب أن ترانى أمى وأنا خارجاً فى الصباح حاملاً صنارتى؟ لم أطل التفكير بحثاً عن حل إذا اعتدت على أن
يأتينى الحل وحده فى وقتها، وهكذا وضعت فى لحظتى تلك خطة لقضاء الأيام المقبلة بحيث لا أعود إلى الكتّاب ولا تكتشف أمى فى ذات الوقت عدم مراوحى إليه، ولم أنس فى النهاية أن أشجع نفسى قائلا: "ياسلام! مفيش حد فى العالم يعرف يخطط كده زيى".. لمحت من مكانى شيخاً كهلاً يقف أمام باب المقام ثم أخرج من جيب جلبابه فوطة كبيرة وبدأ ينظف الباب، لابد أنه الشيخ عطوة خادم المقام، تداعت فى التو على رأسى الحكايات التى سمعتها عنه من أبناء الحتة فى ليالى رمضان الممتدة حتى السحور إذ كنا نتجمع للعب أمام ساحة الجامع التى تحولها الأنوار الساطعة إلى نهار مضيئ، كانت تصدر فجأة أصواتٌ من داخل الجامع على الرغم من إغلاقه فيجرون (وأنا خلفهم) مبتعدين عن المكان، يجرون وهم يصيحون: خادم المقام! خادم المقام! ثم نجلس جانباً فى الخرابة أمام دار أبى عاصى حيث يقص أقرانى ما عرفوه من حكايات عن خادم المقام ومنذ ذلك الحين انطبعت حكاياتهم تلك فى ذاكرتى، ومنها ما قصّه أحدهم أن الشيخ عطوة هو الوحيد الذى يملك مفتاح المقام وأن من يملك هذا المفتاح يعرف الأسرار الغيبية، وخبايا العوالم السفلية بل يمكنه أن يسخّر الجآن، وحكى آخر أن المقام له حارسان أسمران شديدان، لا يأتمران إلا بأوامر حامل مفتاح المقام لأنه الوحيد الذى يمكنه رؤيتهما، وحكى ثالث أن الخادم يفتح الباب المؤدى إلى قبر موالنا أبى غنام صاحب المقام ليقابله مرة كل عام، ثم يثور الجدال فيما بينهم حول ميعاد فتح الباب إذ يدعى كلٌ منهم يوماً غير الذى يؤكد عليه هذا أو يقسم عليه ذاك، وهكذا حتى ينفض لعبنا قبل السحور فأعود إلى الدار واتسحر مع أمى وأبى وأخوتى، ثم أخلد إلى النوم والأحلام تطاردنى حول الباب وخادم المقام والمفتاح السحرى الذى يحمله.
عمرو زين

ليست هناك تعليقات