أحدث المواضيع

قصــّـــة : رسائل غرامية على الفيس بوك ,, بـقلم أ / السعيد محرش

قصــّـــة : رسائل غرامية على الفيس بوك
.
.
.
.
سماح شابة في مقتبل العمر ، فاتنة المظهر نقيّة المخبر، في قدّ رشيق و قوام ساحر، متناسق الأطراف ، معتدل الأجزاء ، ذات وجه أبيض ، بياض الفضّة المصقولة بيد صائغ حاذق ، وعينين واسعتين ، تفنّن سوادها في خطف الأفئدة و ليّ الأعناق إليها ، مع خدّين خالطهما لون الشفق ـ الحمرة ـ عند المغيب ، فأضفى عليها جمالا آسرا للناظرين .
إذا رأيت محيّاها ـ وجهها ـ و هي ترتدي خمارها الأسود ظننته القمر قد أطلّ من ظلمة الليل الحالك ليهدي بنوره التائهين ، أو حورية من حوريات الفردوس الأعلى أخطأت الطريق الى خِدْرِها فنزلت على الارض ، كانت جميلة و لا ترى أنّها جميلة ، متواضعة غير مترفعة ، لم يعرف الكبرالى قلبها طريقا ، شاعريّة النفس ، رقيقة الحس ، طاهرة السّريرة ، تؤمن ببهاء قيم الأخلاق و جمال الأرواح ، سابحة دائما في عالم المُثُل العليا ، كأنها من سكان المدينة الفاضلة التي وصفها أفلاطون بكل حَسن و جميل .
فقدت الصدر الدافء بعد موت والدتها التي حلّت مكانها زوجة أبيها القاسية ، التي لا تعرف الرّحمة إلى قلبها منفذا ، فلجأت إلى الفيس بوك لعلّها تجد من يأخذ بيديها و ينتشلها من بؤسها ، فيذهب بحزنها و يمسح دمع مآقيها ، و يسلي عنها و لو قليلا من همومها التي تئن من حملها الجبال ، و تبرك من ثقلها الجِمال ، و تعجز عن جرّها أقوى الأفيال ، فتعرفّت على العمّة سكينة.
قصّت عليها قصّتها عبر الرسائل الإلكترونية ، فكانت لها تلك المرأة الأم الرءوم ، تسمع شكواها و آهاتها ، فتداوي أتراحها و تضمّد جراحها ، تُسكن همومها ، و تعصف بأحزانها ، أضحت لها السند و المعين على بلوغ المرام من طمأنينة القلب و هدوء النفس و انشراحها ، فكانت تتعهّدها بدفء حنانها كما تتعهّد الوالدة وليدها في ظلمة الليل إذا احتوشته الحمّى و تمكّنت منه العلل .
كانت الشابة قد سقطت في شباك غرام شاب من جيرانها و زميل لها بالجامعة ، شغفها حبّا ، فتعلّقت به تعلقا شديدا ، حتى ملك عليها قلبها و سلب لبّها ، و مع ذلك كتمت حبّها بين جنبيها و لم تظهره له ، الا أنّ النّظرات رسائل للحبيب الولهان ، يعجز عنها التّرجمان .
لم يكن عماد يحظى بما يكفي من الجمال ، و لا يملك سيارة فارهة أو جاه ، و لم يتميّز بالثراء و المال . بل كان من عائلة متوسطة الحال ، الا أنّه كان رجلا و أيّ الرجال ، حاز صفات العظمة من صدق و نبل و نجدة ، يسند ظهر الضعيف رغم ضعفه ، و يأخذ بيد المستغيث و يحمل همّ المهموم ، كان رجلا ذا قلب.
ـ فتحت صفحتها على الفيس بوك ، فاتصل بها عماد و كأنه كان ينتظرها .
عماد : كيف حالك سماح أرجو أن تكون بصحة جيدة و قد تعافيت تماما .
سماح :أهلا عماد ، ها أنا أتعافى تدريجيا و الحمد لله .
عماد : هل بمقدورك الحضور الى الجامعة اليوم ؟
سماح : مازلت لم أسترجع كل قواي لسماع المحاضرات .
عماد : حسنا ، سأصوّر لك المحاضرات ، اهتمي بنفسك جيدا ، إلى اللقاء
سماح : شكرا مع السلامة .
كانت سماح قد تعرّضت فيما مضى لوعكة صحيّة ، مكثت على اثرها في المستشفى لمدة شهر كاملة ، فتغيّبت عن المحاضرات و أجواء الجامعة ، و كان عماد يحضر إلى المستشفى يوميا و معه الغداء ، يتفقّد صحّتها و يسلي عنها بنكاته المضحكة ، و لا يغادر حتى يرى علامات البشر و السرور بادية على وجهها .
هكذا كان شأنه معها حتىّ تعافت ، و لما عادت إلى بيتها استسمح والدها الشيخ عليّ الذي كان يحبه و يقدره كولد له ، ليلتقي بسماح في بيتها ، ويشرح لها ما فاتها من محاضرات ، فوافقه أبوها الرأي حتّى استكملت ما غاب عنها .
و ها هو اليوم مازال واقفا الى جانبها كظلها لا يغادرها ، يمد يده اليها كلما عثرت أو ترنحت نحو السقوط ، دون أن يعلن حبّه لها أو يطارحها ما يختلج في قلبه ، رغم أنه متيّم بها إلى حدّ الجنون ، فصورتها لا تفارق خياله في نومه و يقظته ، لقد ذاب عشقا في صمت مطبق .
ـ رسالة : العمة سكينة.
العمة : كيف أنت يا صغيرتي ، لقد انقطع الاتصال بك مدة طويلة حتى خشيت عليك ؟.
سماح : كنت في المستشفى يا عمة لمدة شهر كاملة ، و مما زاد همي أنني علقت في شباك حب غريب ، لا أعرف هل هو بعيد مني أم قريب .
العمة : شفاك الله و أدام عليك الصحة يا صغيرتي ، لم أدرك جيّدا معنى الغرابة في حبّك .
سماح : حبّ عجيب ، لا أعلم يا عمة لماذا صاحبه عاجز عن التعبير عنه و التّصريح به ، ضنا ـ بخلا ـ به عني كي لا يثلج به صدري و يطمئن فؤادي الذي بات أسيره .
العمة : يا بنيّتي الحب مشاعر نبيلة تشدو بها الطير في أوكارها و تؤنس الوحوش في أوجارها ، يعزف بها الوجود ألحانه ، و يكسو الربيع السهول و الربى حللا من سحر ألوانه ، و به يغازل النسيم الشجر و يحرك أغصانه ، و من وقعه يصدح الشاعر قصائدا تطرب القلوب من بحر أوزانه .
تتلاقى به الأرواح العفيفة لتسطّر نهج الحياة و تضمن به سعادة الدارين ، فهو ليس كرة تتقاذفها الأرجل و تلطّخها النعال بالوحل كما نرى و نسمع اليوم ، بل القلوب يا بنيّتي أمانات لا يجوز العبث بها و الاستهانة بما تلاقي من عذابات لأجل ذلك .
سماح : و الله ما سمعت كلاما أجمل و أحلى قبل اليوم يا عمة في وصف هذا الشعورمن كلامك ، بلى ، شعور يجب أن يأخذ مجراه في نهر الطهر و لا يحيد عنه ، وددت لو كنت أملك من الشجاعة ما يدفعني لأن أبدي له مشاعري نحوه ، لكن الحياء حال دون ذلك يا عمة .
العمة : اصبري يا بنيّتي لعلّ الله يحدث خيرا .
ـ بعد أسبوع اتصل بها عماد عبر الفيس بوك من جديد .
عماد : مساء الخير سماح ، غدا تبدأ الاضرابات عن الدراسة ، و لربما تتحوّل الى اضطرابات ، فلا تنزلي إلى الجامعة ، لأنّ كل الأساتذة غياب .
سماح : هل أنت متأكد من هذه المعلومات عماد ؟
كانت سماح كلّما اتصل بها عماد تظن أنه سيصارحها حبّه و يسمعها معسول الكلام من خمرة الحب التي تنتشي بها أرواح العاشقين ، لكن كان مع كل اتصال يخيب ظنها ، و باتت رسائله باردة ليس فيها ما يضرب على أوتار قلبها الولع به .
و بينما هي كذلك تتأمّل رسالته و تحدّث نفسها اذ ظهرت على الشاشة رسالة أخرى من مجهول إلى جانب رسالة عماد .
رسالة : العاشق
العاشق : أهلا سماح أنا أحد المعجبين بك ، لقد كنت أراك من بعيد و أختلس النظر إليك من قريب ، فأبقى مشدوها بجمالك الخلاب ، غارقا في بحر حبك كزورق فقد ربانه فتاه في لجّة ـ مياه ـ ذلك البحر العميق يصارع أمواجه خشية أن تتناثر ألواحه ، فلا هو هالك فينتهي أمره ، و لا هو ناج فيتحدد مصيره . لقد أصبحت بين يديك كالأسير الذي أودع زنزانة و لا يعلم هل سينقلب إلى أهله مسرورا أم سيحكم عليه بالموت و يسير إلى عالم الفناء و العدم مقهورا.
سماح : من أنت أيها الشاب ؟ و ما اسمك ؟ يجب أن تظهر شخصيتك حتى أُجيبك .
العاشق : لا يمكنني أن أعلن عن اسمي حتى تبادليني الحبّ نفسه ، ساعتها أعرّفك بنفسي و أتقدّم لك خاطبا ، و السلام .
ـ أكمل عماد رسالته : كل الـتأكيد ، لا تنزلي .
سماح : شكرا على التّوضيح عماد
.
ـ ظهرت رسالة العاشق و هي تزاحم عماد في حبيبته سماح ، و تريد أن تختطفها و تنتزعها من حياته في غفلة منه .
كانت سماح تنظرإلى الرسالتين المتجاورتين على الشاشة ، و هي ترى حجم الفارق بينهما ، ترى قربهما و بعدهما في آن واحد ، رسالتان متجاورتان ، مع الفارق الكبير فيما تحمله كل رسالة منهما ، مما يحرك عواطفها و يسقي العطش الذي بداخلها .
فالأنثى زجاجها سريع العطب و الانكسار، تحتاج إلى دفء الكلمات ، و سحر العبارات التي تتدفّق من قلب صادق إلى وجدانها الظامئ ، فتروي أحاسيسها و تنعش روحها الذابل ، الذي ينتظر بلوغها و سريانها فيه ليستعيد الحياة من جديد ، فان لم تجده يتصحّر اخضرارها ، و يتلاشى كل جميل فيها ، كالبستان الذي ينقطع عنه القطر من السماء ، فيتخلله القحط و يكتنفه الفناء ، ثم تيبس أشجاره و تفسد ثماره و يختفي عبيره بموت أزهاره ، و تنقطع ألحانه لمّا تهجره أطياره .
ـ في اليوم الموالي عاود العاشق الاتصال من جديد .
رسالة : العاشق
العاشق : لقد أرّقني حبّك أيتها القاسية ، و حرمني النوم الذي جافاني و هجر فراشي ، و بتّ لا أشتهي الطعام منذ أن رأيتك ، فقلبي يقتات من فجر ابتساماتك ، و يشرب من رنات ضحكاتك ، و لا أدري هل أنا الجاني أم الضحية في حق نفسي ؟؟؟ إذ وكّلتك أمري و جعلتك القاضي و أنت الخصم و الحكم ، فهل لرحمت هذا القلب الضّعيف ؟؟؟ الذي لا عزاء له في هذه الحياة الا أن يطال رضاك ، فذلك أسمى المنى و أعظم الرّجى . و إن لم أكسب ودّك و أفوز بقلبك فسأنتحر لأقدّم روحي قربانا في معبد حبّك . و السلام
ـ قرأت سماح الرسالة و يداها ترتعشان ، و قلبها يخفق و يرتجف كسمكة غادرت جدولها . توالت عليها رسائله ، فكانت تقرأها و لا تجيبه ، و كأنها استحسنت عذوبة كلامه و رقته .
ـ اتصلت بالعمة سكينة لعلها تجلي عنها حيرتها ، و ترسي مركبها المضطرب بحكمتها و تعقّلها و خبرتها الواسعة في الحياة ، فقصت عليها ما جرى من أمر الرسائل ، و صارحتها بأنّ قلبها بدأ يدق لصالح العاشق ، الذي يكاد يسبي قلبها برسائله الغرامية ، اذ استحسنت ما تحمله من تودّد و مشاعر رقراقة ، تروي القلوب الضامئة .
سماح : إنني تائهة يا عمة بين حبّ صامت كالصحراء اذا اكتنفها سكون الليل ، و آخر فياض صاخب كشلالات فكتوريا ، فما العمل ؟؟؟
العمّة : و ما أدراك يا بنيتي بهذا الشاب الذي يسمي نفسه العاشق ،لعله يعبث بمشاعرك و يريد خداعك و حسب .
سماح : لا يا عمّة ففي رسائله عبير الصّدق الذي لا يلتبس على مثلي .
العمّة : اذن اتبعي حدسك و صوت قلبك يا صغيرتي ، فالقلوب الطّاهرة خير مرشد و دليل .
بقيت الشابة الحائرة تقلّب الأمر ، تُقْدِم و تُحْجِم ، و تَخفض و تَرفع ، لمدة أسبوع كاملة ، تسأل نفسها إلى أيّ الرجلين ستكون ؟ أتختار عماد صاحب اللسان القصير أم العاشق الذي أوتِيَ فنّ التعبير ؟ حتّى اهتدت إلى الحبّ الحقيقي الذي ستختاره ، فاتصلت بالعمّة سكينة .
سماح : يا عمّة إنّ معسول الكلام و ان كان جميلا يدغدغ العواطف و ينعشها و يحيي النفس و يطربها الا أنّه لا يُعبّر عن صدق مشاعر صاحبه في غالب الأحيان ، لقد أدركت أنّ الحبّ الحقيقي مواقف صادقة في اليسر و العسر و الشدّة و الرّخاء ، تعبّر عما تعجز عنه ألسنة الفصحاء ، و قصائد الشعراء و خطب البلغاء .
لقد اخترت عماد صاحب المواقف الرجولية ، فكل موقف منه يقول لي إنني أحبك حبا عظيما ، زياراته لي في المستشفى يوميا ، ليذهب عني الأحزان ، و شرحه لي المحاضرات الطويلة ، و تفقّده لأحوالي باستمرار، فإن كنت أنسى يا عمّة ، فلن أنس ذلك اليوم المشؤوم عندما تحرّش بي بعض الشباب خارج الجامعة ، فهاجمهم عماد وحده الا أنهم تمكنوا منه فشجوا وجهه و أسالوا دماءه ، اذ كنت أمسح دمه و أنا أبكي و هو يقول : كفكفي دمعك يا سماح فقد آلمتني أكثر مما آلمتني الجراح ثم سكت ، و كأنه لا يبالي بما حدث له لأجلي .
العمّة : الخيار لك يا صغيرتي ، وفقك الله لكل خير.
ـ في ضحى اليوم الموالي اتصل عماد بسماح و طلب منها أن تحضر الى مقهى الجامعة لأمر هام .
عماد : اعلمي يا سماح أنّ اختيار شريك الحياة الذي يقاسم المرء منا حياته حلوها و مرها ، أفراحها و أقراحها ، ليس بالأمر اليسير ، بل يحتاج إلى كثير من الرويّة و التفكير ، و يخضع للتجربة و الاختبار ، لنقف على صدق حبّ الحبيب من زيفه .
لقد كنت أنا العمّة سكينة لأنتشلك بعد وفاة والدتك من الغرق في بحر الأحزان ، و أمدّك بأسباب الحياة من جرعات الأمل و الحنان .
و كنت في الوقت نفسه العاشق الفصيح صاحب الكلام المليح ، الذي كان ينبع صدقا من أعماق وجداني ، لأتحقق من حبّك لي ، و أعرف مدى رجاحة عقلك ، و أرى هل ستتبعين الزخارف و تنسين المواقف أم العكس .
سماح : أنت العمّة سكينة ؟ و أنت أيضا العاشق ؟ يا إلهي .
بقيت سماح مدهوشة و قد اغرورقت عيناها ، و امتزجت في نفسها مشاعر الحيرة و الحياء و السرور في آن واحد ، و هي لا تكاد تصدّق ما تسمع .
عماد : نعم كنت كذلك ، كانت كل الشخصيات عماد ، تنبع من قلبه و تتكلّم بلسانه ، لكنك نجحت في الاختبار ، و اتبعت صوت قلبك الذي تناغم مع صوت قلبي الذي أحبّك يا سماح ، و غدا سيكون موعد خطبتنا .
السعيد محرش
الطارف ـ الجزائر ـ

ليست هناك تعليقات