الفصل الأول من رواية (مملكة من زجاج ) بقلم عمرو زين
الفصل الأول من رواية (مملكة من زجاج )
-1-
مزّق الرسالة التى أمضى ساعات طوال فى كتابتها بعد أن أعاد قرائتها المرة بعد الأخرى ، أخذ يتأمل أجزائها المُمزقة أمامه فوق مكتبه، يبعثرها بأنامله ثم يعيد تجميعها ووضعها فوق بعضها البعض صانعاً منها كومة، ثم ما يلبث أن يهيلها و يدع أصابعه تعبث فيها كيفما يحلو لها بينما شعور جارف يجتاحه ؛ شعور بالحيرة و الحسرة
" ما جدوى أن تخط رسالة لن تصل أبداً إلى صاحب الأمر؟ طالما أنه يقبع هناك فى قصره المنيف ، المحاط بالأسوار المنيعة (العالية )و الحراس الغلاظ ،المحجوب (عن رعيته) بالبطانة النابحة على كل من تسوّل له نفسه بالاقتراب لعرض طلب أو رفع مظلمة فلن تصل الرسالة أبداً إلى صاحب الأمر."
-2-
أفاق من نومه على يد كالمطرقة تهزه فى غلظة ، و أصابع كأنها قُدت من حديد تنغرس فى لحمه ، وصوت جبلى ذى صدى و رنين يزعق فى وجهه الطفولى :
- أصح !..قم !
فتح عينيه المتثائبة و ألقى بنظراته الوجسة فى وجوه المحيطين بسريره ، غير مصدق " الحرس الملكى حول سريرى ؟! بالسيوف و الرماح؟ ماذا فعلت حتى يأتى الحرس الملكى ليقفوا عند سريرى ويضجوا منامى(مضجعى)؟ ماذا جنيت حتى يشهروا سيوفهم هكذا فى وجهى؟ "
قطع عليه فيض أسئلته و انهمار خواطره التى تواردت على ذهنه صاحب اليد المطرقة ، بسؤاله :
- ايش ده يا مواطن ؟
استبد به الشك المرير و لاذ بالصمت فى مواجهة السؤال المفحم الذى نزل على أم رأسه للتو نزول الصاعقة على الغافل حتى أن حدقتا عينيه اتسعتا على آخرهما و كأنه يسأل دون أن ينبت بشفه " ايش جنيت ؟ "
عاد صاحب الشرطة لترديد الؤال على مسمعه و لكن فى لهجة حادة و نبرة تتهدج و كأنها عاصفة منذرة بكل سوء حتى أنها اطلقت صوت النائم الحبيس من عتقه فأجاب من فوره :
- ايش عملت يا حضرة الضابط ؟
- كيف تنام و المملكة كلتها صاحية ؟
انفجرت من فمه(فيه) ضحكة مستطيلة، مجلجلة انتقلت عدواها إلى الحرس المدججين بالسيوف و الرماح و المحاصرين لسريره فانطلقت الضحكات من أفواههم غصباً (عنهم) بينما تهتز أجسادهم المكتنزة و ترتج من سطوة الضحك عليهم مما حدا برئيسهم الواقف عند رأس النائم للصياح فيهم :
- اخرسوا !
ساد الخرس فى اللحظة و التو و طأطأت الرؤوس و ارتفعت مرة أخرى السيوف ، أعقب رئيس الشرطة بقوله :
- كيف تضحكوا يا حرس و المملكة على وشك الانهيار؟ استحوا !
ردد كلمته الأخيرة ، الناهية مرات حتى صاحوا فى صوت واحد و كأنهم أعضاء فرقة موسيقية :
- استحينا خلاص !
أدار وجهه نحو النائم و سلط نظراته النارية على وجهه العابس :
- اما تدرى ايش سويت بالمملكة (و بنا) يا مواطن ؟
- ايش عملت ؟ أنا ما ادرى شىء .
- انت قلبت المملكة كلتها رأس على عقب و تدعى انك ما سويت شىء؟
- كيف اقلب المملكة و أنا نايم ها الحين فى فراشى ؟
- انت ما انت نايم
- ايه نعم ، ها الحين ما انا نايم ، لكن لما جيتنى لقيتنى صاحى و لا نايم ؟
- لقيتك بتحلم يا غلام .
- و ايش رأيت فى الحلم ؟
- انى اللى بدى أسألك.
- بدك تسألنى ايش رأيت فى الحلم ؟!
- بدى اسألك ليش تحلم يا غلام ؟
ألجم السؤال لسان النائم الحالم عن الكلام و نظر إلى رئيس الشرطة مندهشا إلا أن الرجل تجاهل نظراته الحائرة( المندهشة ) و مال على أذنه و ألقى فيها بكلماته الهامسة التى جحظت لسماعها عيناه .
-3-
اقتاده أحد الجنود إلى سجن المخفر و قام بتسليمه إلى السجّان الذى اشتعل رأسه شيباً و ترهل جلده من طول الجلوس و قلة الحركة :
- ايش هذا يا جندى مذعور ؟
- هذا فطورك ، ما تبغى اليوم تتناول فطورك يا شاويش مغلول ؟
ارتسمت علامات الذعر على وجه النائم و هو يستمع إلى الحديث الدائر أمامه و همّ أن يطلق صرخة من فمه المغلق بفعل فاعل إلا أن الصرخة لم تخرج ، بل خرجت بدلا منها همهمات غير مفهمومة و فاضت عيناه بالعبرات ،نظر اليه السجّان نظرة فاحصة ثم سأل الجندى الذى ساقه اليه :
- هايدى الغلام خائف(مذعور) ، ايش سويتوا معاه يا مذعور؟
- و الله ما سوينا معاه شىء، نحن فقط جبناه من الدار على النار ، يالا يا شويش استلم الطرد ، خلينى اغادر !
- طيب فك الأساور اللى انتم مقيدنوه بها !
- أساور ؟! هايدى ما أساور يا مغلول ، هايدى ...
رفع السجّان أصبع سبابته فى وجه الجندى و غمز له بعينيه فغيّر الجندى لهجته و كلامه و قام بفك الجنازير المقيدة بها يديه من خلف الظهر بينما يردد فى صوت عال :
- أساور !..أساور ..!
- انزع اللاصقة اللى على فمه !
فنظر الجندى إلى السجّان متعجباً مما حدا به أن يسأله :
- ليش تستغرب يا جندى يا زعزوع ؟
- انت ما تنظر حاطين ايش على فمه ؟
- لاصقة .
- انظر جيدا ، تحقق يا شاويش ! قالها بينما يحرك أصابعه العشرة فى الهواء و كأنه يرغب أن يلفت نظره الى شىء ما ، ضرب السجّان بباطن يده على رأسه بعد أن تذكر الأمر الجلل و قال من فوره :
- ايه و الله دى كمامة لكى يتنفس هواء نقى ! خرفت و الله يا مغلول و الكمامة تراها لاصقة ، والمذعور تطلق عليه زعزوع ، طيب يا ولد انزع الكمامة من على فمه لكى يعرف يتنفس !
لطم الجندى على خديه :
- لكى يعرف يتكلم !
- اى صحيح لكى يعرف يتحدث !
نفذ الجندى أوامره ثم سأله :
- ما تبغى شىء تانى يا شاويش ؟
- لا تنسى تحضر الغدا من محل المشويات !
- سوف أحضر لك كل ما تشتهيه العين على الغداء، ظبية لم يطأها ظبى و لم تلد من قبل .
- هنا لا نستقبل اناث يا معتوه .
- خلاص احضر لك واحد بين بين .
- بين بين ، كيف يعنى ؟
- مخنث يعنى و بالهناء و الشفاء !.
- لعنة الله على المخنثين و المذعورين من أمثالك !
التفت السجّان إلى النائم بعد رحيل الجندى :
- ادى رأيت بأم عينيك كيف يكونون جنود المملكة ، جنود المملكة واحد من اتنين ، اما مخبول و اما مذعور .
اقترب بعدها من الفتى الذى رفع يديه فى قبالة وجهه ليقيه مما عسى أن يقع عليه من ضرب بالأكف أو بالجلدة التى يحلمها السجّان فى يده طيلة الوقت إلا أن السجّان قال محاولاً تهدئة روعه :
- لا تخف يا بنى ! ..عدنى هنا كيف عمك !
- عمى سجّان ؟!
- ايش ما تبغى يكون عمك سجّان ؟ قالها فى لهجة حادة تحرك لها رأس الفتى فى ايماءات متلاحقة اختتمها بقوله :
- ابغى يا عمى ، ابغى !
- يا ابنى انى هون ما انى سجّان...
- طبعا !..طبعا ! انت ما انت سجان ! و هدا ما هو سجن ، هدا يبدو لى انه قصر و انى خاطىء فى العنوان ، ويجوز انه القصر الملكى و انتم سايقنى هون لمقابلة الملك ..
قهقه السجّان بملء فيه لقول الفتى :
- و الله فكرتنى يا ولد بالذى مضى و كان .
- يبدو لى انك كنت تخدم قبل فى القصر الملكى يا عمى .
- كنت واقف حرس على باب مولانا الملك أدام الله عزه و ملكه !
- وايش خسف بك الأرض و نزل بك من حارس على باب الملك الى سجّان لعموم المملكة ؟
- يمكنك تسميه انتقال من قصر الملك الى قصر الشعب .
- هدا قصر ؟! هدا تسميه قصر ؟!
- اى نعم يا ولد ! اصبر قليلا و انى اسمعك !
ضغط السجان على زر فى الحائط فجاءت أصوات منادية عبر السماعة المثبّتة أعلى الزر تردد :
- يا ملك ! ..يا ملك !
- ها دول المسجانين ؟
- اى نعم !
- لكنهم يصيحوا على الملك ، ايش دخلك انت ؟
- ما دخلى كيف يا ولد ؟ هدا قصر الشعب و أنا السجّان ، يعنى أنا هون الملك ، لما الشعب يصيح : يا ملك ! اقوم أرد عليهم ؛ اى نعم يا ولد !..ايش بدك يا ولد ؟! و من ها الحين غير مسموح لك تقول يا عمى .
- و ايش اقول لك ؟
- يا ملك !
- ملك ! تحسب نفسك ملك يا سجّان ؟
- طبعاً ملك ! و ايش يسوى الملك فى نهاية الأمر ؟! الملك هو سجّان لكن قاعد فى القصر و أنا هون ملك قاعد فى السجن
**********
- 4 –
سار فى خطوات متوجسة و مر على الزنازين ذات الأبواب الحديدية المصمتة ، شعر أن مئات الأعين تترصده من خلال فتحات ضيقة ، تتسع بالكاد لمفتاح من تلك المفاتيح التى يحملها السجّان السائر أمامه يدبدب الأرض بقدميه و المعلقة فى سلسلة معدنية دائرية تتدلى من حزامه الجلدى على جانبه الأيمن ، توقف أمام زنزانة فى منتصف الممر الطويل الممتد ذى الاضاءة الخافنة و المتشح بالزنازين على كلا جانبيه ثم تناول المفتاح الخاص بالزنزانة بين عشرات المفاتيح و دسه فى فتحته المخصصة لذلك ثم أداره و فتح الباب محدثا صريرا عاليا تردد صداه فى جنبات السجن ، اخترق أذنه سؤال قادم من الزنزانة المقابلة :
- سجن وافد و لا سجين وافد يا ملك ؟
- سجين وافد بالطبع يا فاتح . جائه الصوت مجيبا(معقبا )من الزنزانة المجاورة .
- و ايش دراك انت يا قاصد ؟
- ما خرج حدا من السجن ....
قاطعهما السجّان بقوله :
- اخرس يا غلام انت وهو ! ما ابغى أسمع حس و لا صوت !
- حتى الصوت تريدوا تحبسوه ؟! قالها قاصد .
تدخل صوت ثالث صادر من زنزانة قريبة :
- و ايش قالوا الأخوة يا ملك ؟ ما بدهم غير يعرفوا ايش بيجرى فى الخارج .
- و ايش يعود عليهم لما يعرفوا ؟ يتعبوا يا ولد ، لا تسألوا و لا تتعبوا أنفسكم يا غلمان !
ثم أدار وجهه صوب النائم المذهول خلفه :
- لا تخف يا غلام ، اعتبر نفسك من ها الحين من ساكنى القصر الكبير !
- صحيح و الله هايدى قصر ، هون تطعم و تشرب و تنام ، وايش يسوى قاطنو القصور غير انهم ياكلوا و يشربوا و يناموا ؟ قالها فاتح
- هذا كلام العقل و الله يا ولد ! أدخل يا غلام لا تخف ! قال السجّان .
- بدى أعرف متى يحين الحين و اخرج من هون ؟
- فى الغد ، يمكن ! بعد غد ، يجوز ! لا تشغل نفسك يا غلام ! و نصحيتى لك انك ما تسأل عن شىء ، لما يحين موعد التحقيق معك يأتى الجند و يحبوك من هون .
- و كيف يضعونى فى المحبس دون تحقيق ؟
- وايش يجرى لما يحققوا معك ؟
- يعرفوا انى برىء و يتركونى لحالى.
- لا تعجل يا غلام و خد من نبى الله يوسف أسوة لك !
- نبى الله يوسف ! قالها فى نبرة المستفيق من النوم .
- أى نعم ! دخل السجن مظلوم و خرج منه وزيراً للملك .
-أتعنى ...؟ لم يتم و تعثرت الكلمات على لسانه فعالجه السجان بالقول :
- الله أعلم ! يجوز تخرج من هون على الوزارة أو تصبح من بطانة الملك ، أعزه الله و أدام ملكه !
دخل بعدها الزنزانة مستسلما و أغلق ( أوصد) عليه السجّان بابها الحديدى .
-5-
بقى واقفاً خلف الباب يتأمل الزانزنة من الداخل ، ومشاعر مختلطة تتضارب(تتصارع) فى أعماق نفسه ، مشاعر يغلب عليها عدم التصديق لما يقع له منذ ساعات الصباح الأولى ، وكأنه يكتشف للمرة الأولى حقيقة المملكة التى يعيش فيها " أين العدل الذى ادعوا أنه يعم ربوع المملكة ؟ أين الكرامة التى تشمل كل رعايا الملك؟ هل يدرى الملك من الأصل ما يقع على أبناء المملكة من ظلم و جور ؟ من يقف وراء كل ذلك ؟ أهى صدفة بحتة أم خطأ غير مقصود ؟و لكن كم من صدفة قادت غيرى الى ذات المصير ؟ كم من خطأ غير مقصود أطاح بالأمل المحلق فى الصدور ؟ "
عاد لتأمل الزنزانة التى لا تزيد عن المترين عرضا و الثلاثة أمتار طولا، يقوم سرير على جانبها الأيسر و يرتفع عن الأرضية مسافة تتجاوز المتر بقليل ، و موضوع بجواره كرسى من الخيرزان و منضدة صغيرة من المعدن مثبتة الى الحائط الأيمن ، فوقا عما بدا له من مكانه خلف باب الزنزانة و كأنه دولاب خاص بالملابس يقع فى مؤخرة الزنزانة ، سار خطوات حتى وقف أمام الدولاب و سحب بابه ذى الجرار فاتحاً أياه فظهرت الملابس المرتبة بعناية فى داخله ، مّد يمينه ليتفحص منشفة بيضاء اللون من القطن الخالص ، ثم هبطت يده إلى الملابس الموضوعة فى الرف التالى ، ملابس داخلية جديدة لا تزال مغلّفة فى أكياسها بما يدل على أنه لم يسبق ارتدائها من قبل ، فض كيس أحدها و ألقى نظرة على التكيت الذى يحمل المقاس " نعم انه مقاسى من الملابس الداخلية ، كيف عرفوا مقاسى فى هذه السرعة ؟ "
حانت منه التفاته الى الحمام الكائن فى ركن الزنزانة ، فتح بابه فوجده على حال من النظافة حتى أن أرضيته كانت تلمع تحت وهج اللمبة الدائرية المثبتة فى سقف الحمام المُعلّق، اتجه الى الكرسى و ألقى جسده المنهك فوقه ثم أخذ ينقر بأصابعه المتوترة على سطح المنضدة المعدنية أمامه
" ماذا يعنى كل ذلك ؟هل يطول مكوثى فى الحبس الى أبد الآبدين ؟ و فى زنزانة منفردة دون صاحب أو رفيق ؟ حتى يوسف عندما دخل السجن صحبه أثنان ، يا لك من كذاب أشر أيها الملك السجّان !"
نظر الى السرير نظرة صاغرة و تحسس فراشه براحة يده المرهقة إلا أنه طرد الفكرة سريعا رأسه ، أغمض عينيه و أخذته سنة من نوم.
-6-
استفاق فزعاً من النوم ، تلمس ذات الموضع الذى انغرست فيه أصابع الضابط الغليظة المطروقة ، شعر بآثار الألم الباقية ، التفت الى الأصوات العابرة لزنزانته و القادمة من الزنزاتين المجاورتين عن اليمين و عن اليسار ، حمد الله فى سريرته لأنه أدرك للحظته أن هذه الأصوات كانت السبب فى يقظته و ليست يد العسكر الغاشمة ، سأل صاحب الزنزانة عن يمينه :
- أما أبدعت شيئا اليوم يا شاعر ؟
- كتبت مطلع قصيدة .
- طيب اسمعنا يا شاعر ما كتبت !
-اسمع يا سيدى !
زنزانتى !
أقبع فيها وحيدا ،
يهبط على شعاع الشمس
من ثقب خفى فى السقف،
ينير الى الحرية طريقا ،
اتسلق الشعاع الى السماء،
وأصنع من النور جناحين ،
فأطير فى الأجواء طليقا..!
- الله عليك يا شاعر !
- و انت ايش سويت اليوم يا رائف ؟
- صنعت ما يشبه الصلبان للسجناء .
- هل تبغى تراهم شهداء ؟
- شهداء الحرية لا أثمان لهم
شهداء الحرية لا أكفان تضمهم .
- والله صبحت شاعر يا رائف !
- لا يوجد فى العالم ما هو أسوء من قيد حرية ساع إلى الحرية و كأنك تحجب المياه عن الظمآن وكأنك تكسر جناحي طائر حتى تمنعه من التحليق.
- صدقت يا رائف ، ولكن للحرية ثمن .
- و للقيد أثمان يا شاعر .
- غدا تنكسر القيود و نخرج الى الوجود .
- ما هذا الا بقول شاعر ! لن نخرج من هنا أبدا !
صاح النائم لسماع العبارة الأخيرة :
- لا سنخرج من هنا ، حتما سنخرج ، أنا ما جنيت شىء !
- لمن هذا الصوت يا شاعر ؟ سأل رائف .
- العلم عند الله !
- أنا نزيل زنزانة ثلاثة عشر .
- و ما تهمتك يا هذا ؟ سأل رائف .
- أنا ما جنيت شىء !
- انت ما جنيت شىء ، و أنا ما جنيت شىء و الشاعر كذلك ، وكل من هون فى السجن ما جنوا شىء، أنى اسألك عن التهمة اللى زجوك فى السجن لأجلها .
- قالوا لى : جنايتى انى كنت أحلم .
- هذه أعظم جريمة فى المملكة يا فتى . قالها الشاعر
- أصار الحلم جريمة فى هذا الزمان ؟
- هنا فى المملكة يخشون من كل حالم.
**********
-7-
فوجىء بباب الزنزانة يُفتح عليه بعد انقضاء أسبوع ، ظهر السجّان وبرفقته أثنان من جنود الشرطة، بادره السجّان بالقول :
- يا غلام قم لكى تذهب للتحقيق !
- التحقيق ؟! ها الحين فى نصف الليل ؟
- ما بدك يحققوا معك ؟ خلاص خليك نايم .
فهب من مرقده و مضى من فوره نحو باب الزنزانة إلا أن السجّان استوقفه ساخراً :
- مخبول انت ؟ بدك تروح تقابل المحقق و انت ترتدى القميص الداخلى و البوكسر و بدون حتى ما تضع الشبشب فى قدمك ؟
نظر النائم إلى نفسه و كاد أن يطلق ضحكة لمنظره إلا أنه أمسك نفسه :
- اعذرنى يا ملك ! إنما هى العجلة .
- لا تعجل يا غلام ، سّوى حالك و ارتدى ملابسك و بعدين يصحبك الجند الى المحقق .
دخل إلى الحمام و نظر إلى المرآة ، هاله شكل وجهه الشاحب على غير العادة ، نعم لقد مضت عليه الأيام بطيئة ، ثقيلة ، حتى أنه التزم بالصمت المطبق ، لا يجيب على أحد و لا يعلق على حديث دائر بين رفقاء الزنازين الأخرى و العابرة لمحبسه صباح مساء ، أدرك الأخرون ما يمر به من حالة نفسية إذ سبق أن ألمت بهم الأعراض ذاتها ثم ما لبثت أن زالت عنهم مع مرور الأيام و تعودهم على فكرة الحبس ، وما زال السؤال المؤلم يلح على ذهنه " أين أهلى ؟ ألم يسألوا عنى ؟ ألم يتحروا أمر حبسى ؟ ألم يرفعوا التماسا الى جلالة الملك حتى يعفو عنى ؟ "
وضع رأسه تحت الصنبور تاركا مياهه تنساب عليها ، يجمعها بكفيه ثم يرش بها وجهه فى عنفوان وقوة حتى شعر بالاستفاقة التامة ، نشف شعره ووجهه مما علق عليه من قطرات مياه أبت إلا أن تحتل منه موضعاً و مستقراً ثم خرج و ارتده جلبابه على عجل ووضع الشبشب فى قدمه ثم قال للسجّان :
- ها أنا جاهز يا ملك !
- ضع العقال فوق رأسك ! ..انت ذاهب لمقابلة المحقق ، أما تدرى ما هو المحقق يا ولد ؟
- و الله ما عدت أدرى شىء فى الدنيا يا ملك !
- هايدى اللى يمكنه يكشف الحقيقة .
- و يمنحنى البراءة ؟
- إن كنت برىء يطلق سراحك .
- يبشرك بالخير يا عمى !
قالها الفتى و هو يغادر الزنزانة فى حراسة الجند .
-8-
- ما اسمك ؟
- اسمى فهد .
- ما نقبك ؟
- نقبى النائم ، أو الحالم ، أو النعسان ، اختر ما شئت منها !
- تبغى تهزر يا شيخ ؟ تهزر معى أنا المحقق ؟
- يا سيدى المحقق أنى ما أبغى شىء ، كل ما أريده ان حدا يفهمنى ليش قُبض على ؟ ايش اللى جنيته ؟
- ليش يا ابنى ما بتريد تفهم ؟
- صدقنى يا سيادة المحقق أنا كل غرضى انى افهم ، لكن ما حدا يريد يدينى جواب شافى .
- نحن من ننتظر منك الجواب الشافى .
- جواب ؟ على ايش بالضبط ؟
- المخطط .
- مخطط ؟ و الله ما انى فاهم عما تتحدث !
- المخطط اللى انت بتديره .
- أنا أدير مخطط ؟
- و معك غيرك .
- و ايش يطلعوا هؤلاء الغير ؟
- يا ابنى لا ترواغنى ! انت تعرف كل اللى مشارك معك فى المخطط ، واحد واحد ، واسم اسم ، ورئيس المخفر قبض عليك متلبس .
- كيف قبض على متلبس و انى كنت نايم .
- وايش كنت بتسوى و انت نايم ؟
أصابه سؤال المحقق بالحيرة و ألجم لسانه عن الكلام
" هل أخبره بالحقيقة ؟ هل أقول له أنى كنت أحلم ؟ هل صار الحلم جريمة فى هذا الزمان ؟ نعم ! لقد قال أصحاب السجن أن الحلم فى المملكة يُعد أعظم جريمة ! أى مملكة هذه التى تخشى من أحلام تراود أبنائها و هم نيام ؟!بل لقد وصل بهم الشطط أن قبضوا على و ألقونى غياهب السجن لأجل حلم ضاعت تفاصليه من ذاكرتى ، والآن أجلس أمام المحقق الذى بيده أن يطلق سراحى ، يستجوبنى عن جرمى ، لا أعرف بماذا أجيب عليه ، و إن جاوبته لاتهمنى بالكذب و إخفاء الحقيقة ، وإن أقسمت لاتهمنى بالحنث ، وإن خلعت ثيابى ل...."
توقف فجأة عن التفكير و التدبير و بادر لتنفيذ الفكرة التى خطرت للتو على باله و المحقق يستصرخه داعيا أياه بالتعقل و عدم إتمام ما أقدم عليه إلا أنه لم يمتثل لطلب المحقق فما كان من المحقق إلا أن قال :
- ايه مجنون ؟ تبغى تخلع ملابسك و تتعرى أمامى و أمام الكاتب اللى ماثل جوارى ؟
ثم هب واقفاً على الكرسى الفخيم الذى كان يجلس عليه و أخذ يخلع ثيابه بدءاً بالعقال و الشال و الجلباب ثم أطاح بالشبشب الذى ينتعله فطار عالياً فى الهواء :
- و على رأى الشعب المصرى الشقيق ،إذا كنت انت مجنون فأنا أجن من بلدك كلها !
- 9 -
بسط أمامه الكاتب آخر ورقة من أوراق المحضر و أشار بسبابته إلى الموضع الذى يتعين عليه أن يخط توقيعه فيه ، إلا أنه تردد فى اللحظة الأخيرة أن يفعل و توجه إلى المحقق بالسؤال :
- و ايش يجرى بعد ما أوقع على المحضر ؟
- تمشى .
- طيب ايه رأيك انك توقع مكانى ؟
- أوقع مكانك ؟! ليش يا مواطن ؟
- تمشى ! ما بدك تمشى ؟
- بتهزر ؟ تهزر معى أنا ؟
- العفو يا سيادة المحقق! أنى كان بدى أقول لما انت جنابك طرحت الأسئلة و أمليت بنفسك على الكاتب الأجوبة فلما لا تكمل جميلك و تضع توقيعك على المحضر ؟
- ايش الكلام اللى بتقوله ده يا مواطن ؟ أنى صحيح طرحت الأسئلة لكن انت اللى جاوبت عليها سؤال سؤال و الكاتب هوه اللى سطر أجوبتك .
- أنى ما قلت شى و جلست عاقد لسانى طيلة الوقت .
- لا يهم الكلام ها الحين ، أنى اخدت أجوبة من على لسانك ، ليش تنكر بعد ما طال التحقيق اكثر من عشرة ساعات.
- عشرة ساعات ! و الله الوقت فات ما دريت به يا سيادة المجقق !
- عشرة ساعات تحسبها وقت طويل ! لآ و الله يا غلام ! أنى مرة قعدت أحقق مع واحد عشرة أيام.
- و ايش كانت جريمته ؟ حلم برضو ؟
- ايه نعم ! لكن حلم عن حلم يفرق .
- ده لازم انه كان حلم جملى .
قهقه المحقق بملء فيه :
- نبيه و الله نبيه ! خبرنى كيف عرفت انه حلم بجمل ؟
- فطنة يا سيادة المحقق .
- ربنا يزيدك يا غلام !
- و الجمل اللى رآه صاحبنا فى الحلم كان ساحبه و لا كان راكبه ؟
- ايش تفتكر يا غلام ؟
- افتكر انه كان راكب فوق ظهره .
- اى صح يا غلام !
- و ايش كان يطلق على الجمل يا سيادة المحقق ؟
- ما تعرف دى كمان يا غلام ؟
- أعرف ، لكنى كنت بدى أعرف منك .
- و لا تسألوا عن أشياء يا غلام !
- و ايش العقوبة اللى وقعتوها على الرجل ؟
- السجن مدى الحياة مع جلده عشرين جلدة فى اليوم
- كل ده لأنه حلم انه راكب جمل و اسمه على اسم ....
قاطعه المحقق على الفور بقوله :
- أمسك لسانك يا ولد ! تبغى تعيب فى الذات الملكية(الجملية) ؟
- أنى ما أبغى شيى يا سيادة المحقق ، انى كان بدى استفهم .
- لا تفهم و لا تستفهم ! وقع على المحضر اللى أمامك و امش !
- أما تريد أحكى لك على الحلم اللى رآيته فى المنام .
- ما أريد أسمع منك شىء ، أنى ما صدقت انهى المحضر .
- حتى و لو من باب الفضول ؟
- انت تبغى تستدرجنى لشيء فى عقلك يا غلام ، انى أعرف جيداً عقلية امثالك من الشباب اللى يقضون عمرهم يحلمون .
- لكن حلم عن حلم يفرق .
- كيف ؟
- فيه حلم يتحقق و فيه حلم يتبخر .
- وانت تحسب ان حلمك يتحقق ؟
- أحلامى كلها تتحقق .
- ها انا انصت ، احك ما رأيت فى منامك يا غلام !
- لن أحكى شيى الا أمام الملك .
- الملك بذاته .
- أى نعم الملك بذاته ، لأن الحلم يخصه و يخص ملكه .
- هذه بسيطة يا غلام ! يا جنود !
دخل حفنة من الجنود الى المكتب الذى يجرى فيه التحقيق ، أمره المحقق :
- خدوا الغلام ده الى قصر الملك !
همّ أحدهم أن يضع فى يده القيد إلا أن الفتى تمنع :
- كيف أدخل على ملك البلاد و فى يدى قيد ؟
- اصحبوه دون أن تضعوا له قيود !..قالها المحقق للجنود.
أحاطه الجند و صحبوه الى خارج الحجرة
- أحقا ستلبى له طلبه و ترسله إلى القصر الملكى ؟ سأل الكاتب المحقق الذى أجاب بالقول :
- كما ان هناك حلم و هناك حلم آخر ، فكذا هناك ملك و هناك ملك .
عمرو زين..عمرو زين..عمرو زين
ليست هناك تعليقات