ثوب شفاف قصة/ سامى عبد الستار مسلم مصر
ثوب شفاف
قصة/ سامى عبد الستار مسلم
مصر
لا أعلم كم مر من السنين وأنا أدرك العالم بأذنيّ ؟ حينما كنت أنصت إلى أبى وهو يقرأ لي المواد الدراسية. كلما فتحتُ كتاباً لا أرى إلا خيوطاً سوداء مرسومة على خلفية باهتة، تفوح بروائح العجز واليأس؛ فأعود إليه أسمع، وأتمادى في تكبير الكلمات وتقريبها.
أعوام كثيرة وأنا في اشتياق لأن تغزل عيني الحروف، وتنسج الكلمات، وتصنع ثوباً من القراءة. كنت خلالها إذا مشيتُ في رفقته أتطلع بصعوبة إلى اللافتات الكبيرة أعلى واجهات المحلات؛ محاولاً القراءة دون جدوى؛ حروف مرسومة كسيوف متداخلة، وخيام منصوبة في عشوائية؛ فأعود إليه لأقرأها بأذنيّ.
شعرتُ بدوار، وامتلكني إحساس بأني لن أجدها.. لم أدع ركناً بالغرفة إلا وبحثتُ فيه. عدت حيث تركتها، أنظر وكأني أفتش لأول مرة.
أخذني إلى القصر العيني. بكت أمي حين قالوا: يجب توسيع الجمجمة؛ التي راحت تضغط على العصب البصري؛ حتى أنها مصت نور العين اليسرى، لكنها أبقت لي القليل باليمنى.
كنت أشعر بثقل رأسي المربوط بإحكام حين أتحرك حركة مفاجئة، أو حين أميل لآخذ شيئاً من الأرض.
كان صوته يفاجئني أحياناً بسؤال:
- ده إيه ؟..
لكنني حين أنظر تجاهه لا أرى سوى خيالات؛ فأجيب دون تفكير:
- مش شايف
كانت صورته المهزوزة تقترب، ثم يضع في فمي ملعقة من العسل المخلوط بغذاء ملكات النحل.
رغم جلوسي في المقعد الأول إلا أنني كنت لا أرى سوى خيوطاً ضبابية بيضاء ملأت السبورة .
- وسع...مش شايفين منه يا أبلة.
أجلس القرفصاء لاصقاً عيني اليمنى بالسبورة، وإذا ما تعبت أفرد ساقيّ َ. أعود لأدقق النظر؛ ثم ألصق عيني بكراستي. مع الجرس يغادر الجميعً الفصل، بينما أكون منهمكاً في نقل الدرس.
تكرر تعثر قدميّ في الأشياء، خاصة الأكواب الزجاجية التي كان يضرب صوت تحطمها رأسي بين الحين والحين؛ فأشعر بالندم. يزداد ندمى كلما ازداد صمت الموجودين في البيت، ويزداد أكثر إذا تأسف لي أحدهم، وهون علىّ.
صورة لطفل يبتسم بإحدى صفحات الجريدة. كتب تحتها "جراحة ناجحة تعيد طفلاً بريئاً لرؤية العالم بصورة جديدة"
بعد أن أكمل أخي الخبر قال::
- مهما كان تمنها هنعملها له .
شعرت بفرحة كل من حولي.
كنا بعيادته عند الغروب. دخلتُ مع أخي غرفة الكشف.
بعد ما استمع إلينا. هز رأسه:
- دى تجربة جديدة ليا، لكن إن شاء الله خير.
* * *
- شايفنى؟
ابتعد بعدما وضع العدسة، ثم عاد واقترب منى. فقلت :
- أنا عاوز أقرأ!!
عاود سؤاله:
- شايفنى؟
- أيوة .
أتى بصفحة مليئة بالأرقام والحروف الهجائية متباينة الأحجام :
- اقرأ.
كانت الحروف كبيرة، نظيفة، مغسولة، ونابتة من أرض بيضاء.
- أنا عاوز جرنان.
حين وقعت عيني على السطور كانت الكلمات تولد وتنمو وتتوهج. بلغت فرحتي مداها، حتى استقرت سحابة بيضاء على قماشة الكلمات، بينما كان الطبيب يخلع الإطار عن وجهي ويمسح دموعي .
* * *
ربما نسيتها في مكان ما...
راجعت كل الأماكن التي ترددت عليها لمدة أسبوع، رغم يقيني أنها كانت معي البارحة.

ليست هناك تعليقات