(( مسافات )) للكاتب ~~~~~ سامي عبدالستار مسلم
مسافات
قصة / سامى عبد الستار مسلم
أطلقت حرصي المعتاد وسط الصخب الذي حاصرني وأنا أعبر الطريق. انكشف لي متران من الإسفلت فخطوتهما، فصار خلفي مجرى منزلق من المركبات. انتظرت أن تظهر أمتار أخري؛ ولا فائدة. استدعيتُ كل طاقتي كي تزيح الغبش الذي تحول إلي شبه ضباب أمامي. لكن مركز المساعدة فى رأسي لم يستجب؛ فقد كان مرهقاً أشد الإرهاق؛ حتى أنى شعرتُ بحركات نمل يدوى برأسي. حركة الحافلات والموتسكلات كانت سريعة جداً، وإضاءتها تنقر الأرض فى عجلة؛ فتزيد من دبيب النمل..لم يكن لي سوى هذا الطريق، وبعده سيكون السير إلى البيت مريحاً إلى حد كبير؛ فأعطيهم تفاصيل المشوار الذي اعتمدوا عليَّ فيه.
منذ شكواي من عدم رؤية السبورة - بالرغم من توافر المقعد الأول دائماً لي – ومن تعثري المستمر فى الأشياء - وأنا أواجَه بالكلام عن الجنة والنار، والصبر الذي إذا تحمله صاحب الاختبار سيفوز بالجنة. أثناء الأكل كان صوت مضغهم معبراً عن الراحة والاستمتاع. حين أحاول المضغ كانت تقفز فى وجهي لحظات ارتطامي وعدم السيطرة، والرغبة الملحة فى كتابة أي شيء من على السبورة؛ فلا أدرى بنفسي-وأنا بينهم- إلا والدموع تسيل على خدي، حتى أنها كانت تبلل شفتي، وتدخل فمي مع اللقمة الأولى التي أبت أن تُمضغ. ثم يعلو صوت البكاء؛ فيكف الجميع عن الأكل، وتبدأ المواعظ، والحكم، وعبارات الصبر والأمر به...
كان بعضهم يبكى، والأخر يصر على التماسك ومواصلة الكلام عن مسالة الصبر. لكنه كان دائماً لا يستطيع أن يمسك نفسه من التلفت إلى الآخرين؛
متمسحاً فى بكائهم...ولا أدري كيف كنت أصدق – ساعتها - البعض حين يقول "ربنا بيخلق الناس ويعمل فيهم اللى هو عاوزه"...ثم يمسك ورقة ويصنع منها عروسة الحسد ويكمل..".زى العروسة دى....أنا إللي صنعها"...ثم يفقأ لها عيناً، أو يقطع ذراعاً، أو رجلاً..ويكمل. "وربنا حقه يعمل كده برضو مع خلقه لأنهم ملكه...زى ما العروسة ملكي "...وكل ما كنت أطلع به من كلامه هذا أن أصبر، وأن ما بي لا فرار منه..
فأمضى فى اليوم التالي إلى المدرسة، وأجلس فى المقعد وكلى صبر وتفاؤل وحب. لا يهمني أصوات التلاميذ وهم يضحكون ويجرون ويقفزون فوق المقاعد؛ لأني بعد قليل لن أنهزم أمام الكلام الأبيض، الذي سيرسم على السبورة. وسأتحمل حتى انتهاء الحصة دون ألم، ودون أن أتوجع حين أتفقدهم وهم يرفعون رؤوسهم، ثم يوجهونها نحو الكراسات...سأقاوم همهماتهم وهم يكتبون...وحين تنتهي الحصة سألتزم الجلوس، ولن أخطو أية خطوة؛ كي لا أرتطم بأدوات أحدهم أو حقيبته، أو تتعثر قدمي فى ساق فأطرح على الأرض.. وحين كانت تُرسم الخيوط البيضاء أسترجع العروسة فى مخي، وأنظر أمامي فى صمت مؤلم...، بعد انتهاء الحصة كان يحدث أي شيء يجعلني أنهض من المقعد وأمشي دون تفكير..أي شيء كان يحدث؛ كأن يناديني أحد الأولاد، أو يطلب منى حاجة من أدواتي، أو النزول معه حجرة المدرسين، أو حتى إلي الحمام للتسكع واللعب؛ فأقوم فى انبساط ويحدث ما كنت أحترس منه؛ فيرتج صدري عفوياً، وتستفز حبتا عيني فيصعد البكاء.
كان يتبرع كل مرة فرد من الأسرة فيوصلني إلى المدرسة، ولا يكتفي بذلك؛ يظل ماكثاً معي ناظراً كل فترة فى ساعة يده..حتى إذا صعد الطابور إلى الفصول فيصعد معي تاركيْن الدكة المجاورة لحجرة الناظر، ولا ينصرف إلا بعد أن يسلم على المدرس ويوصيه عليَّ، أو يسلمني له فى أوقات دون كلام...فى المناسبات كانوا يحرصون أن يتركوني لأحد منهم؛ فلا أفلت منه حتى نعود جميعاً إلى البيت...
مللتُ من مساعدتهم، والتي كانت كثيراً ما تفرض عليَّ، ومللتُ من عبارات المرض واليأس التي كانت تتسرب منهم دون قصد.... تملكهم الحرص كأني مخلوق من زجاج هش؛ حتى صعود السرير، ودخول الحمام كانوا يساعدونني عليه...لم يبخلوا عليَّ بأي شيء؛ يشترون اللُعب؛ بل ويلعب البعض معي بها، يبنى بالمكعبات ما يريده، وإذا أردت بناء شيء فيبنيه نيابة عنى...وكلما كان يأتي طفل من أبناء الأهل ألوذ باللَعب معه؛ فأرمى أمامه كل اللُعب، وحين أبدأ أتعثر؛ ويضحك ساخرا، وينتهي اليوم بالبكاء...فيزداد حرصهم ومساعدتهم...
فانوسي فى رمضان كان من أجمل الفوانيس، لكنه كان دائماً يضاء فى إضاءة البيت، بينما كنت أصغى إلى عيال الشارع من خلف شيش حجرة الجلوس وهم يلعبون بفوانيسهم في ظلمة الشارع ويغنون.
دروس الدين كانت تؤكد أن الله كبير ورحيم وعظيم. وكلما كنت أجلس بمفردي تقفز فى رأسي العروسة، وتدور معركة بينها وبين دروس الدين، كانت نهايتها دائماً لصالح حصص الأبلة أمل، وصوتها الهادىء وهى تقرأ
الآيات القرآنية، وتملس على رأسي فى آخر الحصة وهى تقول: شاطر برافو عليك.
لم تأمرني الأبلة أمل أن أكتب مرة...، حين وقع قلمها الأحمر وضرب فى قدمي؛ أكدتُ عليه بحبسه تحت قدمي، حتى نزلتُ ناحيته وأمسكته بأصابعي؛ ارتج جسدي كله، واهتز صدري لملمسه، ولا أدرى كيف قمتُ واتجهت إليها وأنا مادّ يدي لها به.
- بسم الله ما شاء الله... اسم الله عليك
نقشت كلماتها فى صدري ومخي، وصنعتْ بي حماساً جعلني أتلمس الأشياء، وأصغى إلى أصواتها، وأقيس المسافة بينها بقدر المستطاع... صرت أصنع تجاربي هذه فى البيت يوماً بعد يوم. لم أدع شيئاً يمكن التجربة عليه إلا جربته: صوت المكواة، ودوارق الماء، صينيات الشاي والتربيزات. صوت الملاعق، والطبلية، ومطفأة السجاير...كل شيء؛ حتى أزرار التليفزيون، وفيش المروحة والتسجيل والخلاط..كنت أفرق بين كل منها.
كانت التجارب محفزة ورشيقة، وكانت كل الصعوبة فى تقدير المسافات. فاستندت إلي عقلي فيها، وحملته مسئوليتها كاملة؛ ففتتَ المسافة بين مقعدي والسبورة؛ بأن طلبتُ من المدرسين علو الصوت أثناء كتابتهم، وصرت أكتب وراءهم..ورحت أطبق تجاربي الخاصة بالمسافة داخل البيت بين البوابة وباب الشقة، وحجرة النوم والحمام، وبسطات السلم والدورانات...حتى المسافة بين السرير والثلاجة المجاورة له لم أهملها فحسبتها...كنت أشعر باطمئنان شديد إذا قطعتُ أية مسافة منها فى سلام؛ فأشرب من الثلاجة، وأصعد السلم،
وأدخل الحمام وأفتح باب الشقة على غفلة من الجميع؛ بل وأجلس على الكنبة بينهم، وأتلقى الإعجاب الشديد منهم.
كل من كان يود شيئاً كنت أناوله له دون طلب. ناولتُ أبى مطفأة السجائر، وشماعة البدلة، وورنيش الحذاء..وكنت أكثر حرصاً حين أناول أخواتي البنات علب الماكياج والمرآة الكبيرة؛ فأدقق فى المسافة بحرص بالغ وانتباه شديد. وأتحرى الحذر كل الحذر بعد الانتهاء؛ فأمضى بخطى ثابتة تؤكد أن الخطوات الفائتة كانت بغير حذر.
أرهقني الحرص كثيراً، لكنى دوماً كنت أصر عليه. ففاجأتهم بشراء أشيائهم من البقالة والفرن، والأجزخانة...والخروج من المدرسة وحدي والوصول سليماً إلى البيت. حتى تلاشى ذهابهم معي ومسك أيديهم لي. وصرت رقيباً على عقلي الذي صار عكازي؛ فلا أشوش عليه فى أي شيء، ولا أفعل أي أمر فيه حركة وهو متعب؛ كي لا أرد إلى بكاء الطبلية وجلسات الصبر.
ليست هناك تعليقات