أحدث المواضيع

(( فراشة رمادية )) للكاتب ~~~~~ سامي عبد الستار مسلم

فراشة رمادية
قصة/ سامى عبد الستار مسلم
مصر

ليتكِ كنتِ أكبر من ذلك بسبع سنوات !!
بعد ثلاث مكالمات بالهاتف صار الحديث معها مُسكناً للآلام، وبتوالي المكالمات بات رغبة. كانت تناقشني في الرياضيات، والفلسفة، والدين.
في أول الأمر كنت أتحدث بحرية، ثم أصمت؛ فيأتيني هدوء يقظ منتظر، فإذا أنهيتُ كلامي تُهَمهم معقبة؛ تؤيد أشياء، وترفض أخرى؛ يتملكني الاقتناع، وتتشبع نفسي بدفء الصوت. حتى الهمهمات - التي تنساب منها كل فترة - اعتادتها أذني إلى أن صارت إيقاعات.
كثيراً كنت أرسم بريشة الدهشة - في خيالي - صورة لها؛ فتاة في الصف الأول الثانوي؛ فتأتى ألوان الرمادي مع الأبيض لبنت باسمة. 
متى ستوقع على هذه الصورة ؟
أحببتُ الهاتف أكثر، وازدادت اللوحات. 
في كل مكالمة كنت أستقبل منها مفردة جديدة للرقة، وأخرى للوعي. 
* * *
لازلت أعيش لقاءنا الأول؛ كأنه مسرح حي، يُرفع ستاره حين تنطلق أية مفردة خاصة بها كإشارة له...، يومها تلاحقت دقات قلبي فدوت في عيني، أحسستُ باتساع الحجرة، ومطر الياسمين يتساقط. امتدت يدها في رقة لتصافحني؛ تثاقلت يدي، حايلتها لترتفع، فيما كان عبقها يملأ صدري.

- سمر؟!!
كيف نطقها لساني لحظتها ؟
اشتعلت بداخلي تحيات كثيرة، انقلبت الأصوات إلى موسيقى، ارتجفت عيناي، ودقت إيقاعات بداخلي. بدت لي الوردة البيضاء التي بطرحتها - والتي كانت قد حكت لي عنها - كعصفور يدعوني للرقص؛ فتخيلتها بين ذراعي، ورحت أراقصها بقلب يعتصر.
لا أدرى كيف كانت تصدر عنها "ألـو"...
كنت أخشى أن أتكلم بعدها فأُحرم هذا الطعم الذي يتلاحق، وأخشى إن زاد صمتي فتغلق الهاتف؛ فأرد لتأخذني كلماتها إلى فضاء من السحر. أدعى تشوش الهاتف أحياناً؛ فيأتيني الصوت الحامل ثلاثة حروف، يمسح كياني من الإرهاق، ويرشه بعبير نفاذ يخدره لأصمت دونما ادعاء.
يومها طارت كفراشة - بوردتها - تبحث في المكان عن شيء. تُسقِطُ ورقاً بالأرض وتعيده. أرسلتْ لي نظرة فعدتُ أنظر لوردتها. أخذني النهار الأبيض في بلوزتها، والسحب الرمادية في الطرحة والتنورة. ترددتُ في النهوض لأساعدها في بحثها. وواصلتُ السفر داخلاً نهارها وسحبها تعلو وتنخفض. 
* * *
- سمر؟!!
كأنه صدى حين نطقتُها في لقائنا الأول؛ رفعتْ وجهها نحوى في إيماءة مغسولة ببسمة؛ أنعصر الخجل من وجهها؛ فخفضته تجاه أوراقها. تألق البياض في وردتها بعد أن أضاءت هاتفها، وشربت الطرحة من ضوئه.
- تحبي أي مساعدة ؟
سمعتُ ضحكاتها الهامسة تجيبني كنبع هادىء من بين الأوراق. 
رجوتُ الساعات ألا تنقضي؛ فالمسافة أضحت بيني وبينها أقرب من أي لقاء. انتظرتُ أن تسألني عن أي شيء فأجيب؛ وأستمتع بصمتها وإيماءاتها الساحرة؛ كالتي تأتيني في الموبايل مثل تيجان للصمت؛ لكنها كأي لقاء لم تفعل. أخذتْ حقيبتها وقلَبَت في داخلها. 
امتلكتني رغبة قوية - غير التي كانت تمتلكني قبل ذلك - أن أجلس بجوارها؛ فقمت، وبينما كنت متجهاً إليها قامت بسرعة، واتجهت إلى مدام نهى.
- ماما.
اختلط خوفي بلذة للحظة؛ فقررتُ المكوث في مكاني، بينما عادت إلى مقعدها ووجهها يحبس ضحكة، ثم أعادت رأسها لأسفل. 
هدأتْ للحظات، بينما كانت تحرك حذاءها..
أبهذا الشكل تتكرر الهزيمة ؟! 
كيف يتفرد وجهي بوجهها..... 
فألمس بعيني مناطق الحسابات الدقيقة.....
والحكمة، ودفء الشعائر الروحانية ؟
كيف أذوق طعم حديثها ؟
هل أظهر الموبايل وأتصل فتتحدث كعادتها، ويأتي حديثها كحصان يجرى في كياني ؟!! 
- عاملة أية في الإنجليش ؟
سكوتها المطعم بهمهمات - في الموبايل - له سحره، لكنه هنا هزيمة لي، وهى قد فرشت ذراعيها على مقدمة المقعد ونامت برأسها عليهما..
هي سمر..،
ها هي الوردة البيضاء، وهذه هي الطرحة الرمادية التي تحكي لي عنها دائماً. نفس لون التنورة تماماً، ولون الجورب أبيض كلون البلوزة؛ إلا أنه يتحرك مع حركات الحذاء المستمرة.
أبهذا الشكل يتضاءل حجم إنسان كان بالأمس عظيماً ومثقفاً، وإحساسه جميل، بالألوان؛ الرمادي للرأس يعقبه الأبيض، فالرمادي، ثم الأبيض. أليس هو من قال في حديث الهاتف يوماً: إن ترتيبهم بهذا الشكل يكون " علم لدولة ثانوي " ؟!!
- أنا ماشية يا ماما.
ارتجف جسدي لنهوضها المفاجىء، وقد حملت حقيبتها في رشاقة متجهة نحو الباب، بينما كنت غارقاً في شذاها الذي يعبق المكان.

ليست هناك تعليقات