سياسة الطمع وطمع السياسة = بقلم الكاتب علي الشافعي -- تحياتى جدو عبدو
سياسة الطمع وطمع السياسة
بقلم الكاتب علي الشافعي
=======
مسرحية للسيدة فيروز نعرفها نحن جيل الستينات جيدا
اسمها (المحطة) , والحكاية لمن لا يعرفها , أن فتاة تحمل
حقيبة سفر وقفت وسط حقل انتهى أصابه لتوّهم من
زراعته بالبطاطا . سألها صاحب الحقل عن أمرها فأجابت :
هنا محطة القطار , وأنا أنتظر وصوله , حاول إقناعها أنها في
حقل بطاطا , ولا يوجد سكة حديد في المنطقة , وان هذا
حقل ورثه عن أبيه الذي بدوره ورثه عن أبيه , فلم تقتنع .
استعذب الرجل الحديث مع الفتاة , فكان رقيقا معها , وأخذ
يجاريها . شاهد المنظر لص فتساءل وعرف القصة , فانطلق
وأحضر تذاكر وصار ينادي : تذاكر , تذاكر . ويبث دعاية لقطار
قادم في رحلة إلى الشمال بأسعار مخفضة . طمع الناس
وأخذوا يشترون , وغاب عنهم التفكير المنطقي بالموضوع ,
إذ لا يوجد خط سكة حديد في تلك المنطقة , تجمهر الناس
وتكاثروا بانتظار القطار المزعوم . استغل الباعة المتجولون
المشهد , فأحضروا بضاعتهم واخذوا يبيعون . عجّ المكان
بالناس فاستغل بعض المستثمرين الوضع فاشترى جزءا
من الحقل , وأقام عليه فندقا سياحيا ومطعما راقيا , أخذ
يرتاده عُلية القوم مع زوجاتهم نهارا , ومع خليلاتهم ليلا .
رأى المنظر شحّاد فاستغل الفرصة ليشحد من علية القوم
ليلا , لأن الرجل من هؤلاء( على رأي الشحّاد) لا يريد أن
يظهر أمام صاحبته بخيلا . رئيس البلدية بدوره ورغم أن
المخططات تخرج من تحت يده , إلا أنه لم ينف الأمر , وإنما
استغل ذلك كدعاية انتخابية له , فافتتح السوق والمطعم
وأنفق أموال البلدية على العزايم , ليكسب شعبية الناس ,
ومضت الايام ؛ شهر, شهران , سنة وسنوات , ونسي
الناس قصة الرحلة والقطار , ولكن بقيت المحطة واقعا
ملموسا في حياتهم .
الملاحظ في هذه القصة سلسلة من الطامعين , ساهم كل
منهم في استمرارها , وكانت له مطامعه الخاصة , بدءا
بصاحب الحقل الذي ضحّى بموسمه الزراعي من أجل
الفتاة وطمعا في ارتفاع ثمن الأرض , مرورا باللص الذي باع
الناس تذاكر وهمية , ثم طمع الناس في رحلة رخيصة
التكاليف , ولم يكلفوا انفسهم السؤال ما اذا كانت القصة
حقيقية ام لا , وكذلك بعض الباعة الذين طمعوا بتجارة
مزدهرة في هذا التجمع , والمستثمر الذي وطمع في
مكاسب مادية , وكذلك الشحاد الذي طمع في أموال علية
القوم , مستغلا عدم مقدرتهم على الرفض بوجود
صويحباتهم . واخر السلسلة رئيس البلدية الذي طمع في
تجديد ولايته , ووجد في ذلك دعاية انتخابية له .
في المسرحية ــ يا دام عزكم ــ مشهد أعجبني فأضحكني
بقدر ما آلمني : حوار بين الحرامي والشحّاد , يقول
الحرامي للشحاد : أنت يا أخ مثلي حرامي بس جبان . فيرد
عليه الشحاد : وانت مثلي شحاد بس وَقِح , فيقول
الحرامي : أنا يا أخ بأخذ من جيوب الناس بالقوة , يعني
بطولة . قال الشحاد : وأنا بأخذ من جيوبهم بالإقناع , يعني
سياسة , والاثنين السياسي والبطل ضروريين لمصلحة
الوطن .
والحياة ــ يا دام عزكم ــ مسرح كبير , يقف الناس على
خشبته ودحا من الزمن ثم يغادروه لغيرهم , فهل أيعقل أن
يسود الطمع في أمة , بحيث يصبح ظاهرة اجتماعية وثقافة
مجتمعية , وأسلوب حياة ؟ ويا ترى كيف يكون نمط معيشتها
اليومي؟ وما مصير مثل هذه الأمة ؟ قديما قالت العرب في
أمثالها : مصارع الرجال تحت بروق الطمع . وقال عمر رضي
الله عنه : " ما الخمرُ صرفُها (شُربُها) بأذهبَ لعقول الرجال
من الطمع". وقد حمل أدبنا العربي كثيرا والأشعار والحكم
والأمثال عن تلك الظاهرة , والتحذير من سيادتها في
المجتمع , يقول الشاعر:
النفس تطمع والأسباب عاجزة *** والنفس تهلك بين
اليأس والطمع ويقال : من طارد عصفورين في آن واحدة
حريٌّ أن يفقدهما معا . وقيل : العبد حر إذا قنع والحر عبد إذا
طمع . قد تودي بعض الأحيان بالأمة الى الهاوية , خاصة إذا
ابتليت بسياسي طمّاع . فكم من أمة حفظ لنا التاريخ أن
ساستها وقوادها أوردوها المهالك , وجلبوا عليها المصائب
والويلات , من وراء طمعهم وحبهم السيطرة والظهور , وما
نراه اليوم في محيطنا شاهد على ما أذهب إليه.
في معركة أحد كان سبب هزيمة المسلمين طمع الرماة
بالغنائم فخالفوا أمر رسول ربهم , وكذلك في معركة بلاط
الشهداء التي أوقفت المد الاسلامي في اوروبا . وخسرنا
الاندلس بسبب طمع كل حاكم بما لدى أخيه , فيتحالف مع
الفرنجة في سبيل ذلك . نابليون طمع في حكم الدنيا
فخسر الدنيا . هتلر طمع في روسيا فخسر الحرب .
إسرائيل طمعت في القضاء على المقاومة في غزة , وزيّن
لها ذلك شياطين الإنس والجن , فتحطم جبروتها على بعد
أمتار من الحدود , وتحطم معها وهم الجيش الذي لا يقهر .
ما رايكم دام فضلكم ؟ بما أن الحياة مسرح كبير , ألا ترون
معي هذه القصة ؛ بكل ابعادها واحداثها واشخاصها ,
تحاكي واقعنا المرير .
طبتم وطابت أوقاتكم .
على الشافعى
ليست هناك تعليقات