يكاد القرار العُمَري الذي اتخذ الهجرة حدثا للتاريخ الإسلامي أن يكون وحيا، ولا عجب؛ فذلك العقل العُمَري بلغ من الشفافية والعبقرية أن قد نزل الوحي ليوافقه في أكثر من رأي، ومن ثم كان قرار التأريخ بالهجرة ثمرة من ثمار ذلك العقل الألمعي الجبار فاقتضى أن يتوقف المسلمون أمامه في كل عام، وهي وقفات لا تزال تمدهم بالجديد والضروري لمسيرتهم في التاريخ.
في هذه السطور سنرى أن الهجرة تقدم للمسلمين منهجا في بحثهم عن الحلول للمشاكل القائمة، وسنرى كيف أن الإخفاقات التي يشهدها واقع الأمة راجعة إلى اعتماد حلول "ناقصة" لم تدرك بعض الحقائق التي كان ينبغي استلهامها من حادث الهجرة.
طبيعة المشكلة
كان قيام الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وضرورة تاريخية، فعلى المستوى الشرعي كان لابد للرسالة الخاتمة أن تستكمل فصولها فتخبر الناس كيف يديرون حياتهم في دولة، وكيف ينظمون لأنفسهم طرق السياسة والإدارة والحرب والقانون. فكان لابد من وجود صورة للدولة الإسلامية تظل بمثابة النموذج الذي يُلهم الناس ويُرشدهم. وهي صورة لا يستفيد منها المسلمون وحدهم بل هي كذلك من وسائل الدعوة لكل العالمين، فإن تحقيق الفكرة للنجاح على الأرض يدفع ويُغري من لم يقتنع بالفكرة ذاتها إلى أن يقتنع بها حين يرى آثارها وثمارها.
وذلك قانون تاريخي لا يُجادل فيه، فكل فكرة في التاريخ لم تستطع صناعة دولة -تتمثل بها في واقع الحياة- ماتت في مهدها أو في صباها، أو ظلت –في أحسن الأحوال- حلما يراود الخيال، وينفر منه الواقعيون، ويطرحه السياسيون والقادة وصناع التاريخ.
فكان لابد للرسالة الخاتمة أن تُنشيء الدولة لتحقق ثمرة الفكرة، ولتثبت الفكرة أنها عملية قادرة على الحياة وقابلة للتطبيق، بل هي النموذج الأمثل والأنجح من بين كل الأفكار. هذا على مستوى الضرورة الشرعية.
وأما على مستوى الضرورة التاريخية، فيبدو الأمر واضحا لو حاولنا تخيل مسار التاريخ الإنساني بدون الرسالة الإسلامية، إن الصورة تبدو كارثية بكل الوجوه، فإن القفزة الحضارية التي صنعها المسلمون وضعت بصمتها على كل التاريخ الإنساني وعلى مختلف أنشطة السلوك الإنساني حتى ليبدو المفكر الإنجليزي الكبير مونتجمري وات مذهولا إذ يقول "إننا لنجد شيئًا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو أمر يخلب اللبَّ، حين نقرأ عن كيف تحوَّلت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية"[1] ، هذا مع اعتراف المستشرق الإنجليزي الشهير ألفريد جيوم بأن تأثير الحضارة الإسلامية لم تدرك أبعاده بشكل كامل إلى الآن، يقول: "وعندما ترى ضوءَ النهار جميعُ الموادِّ النفيسة المختزنة في مكتبات أوربا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عُرِفَ عنه حتى الآن"[2].
إلا أن المشكلة العويصة التي عاناها النبي في قريش أن أحدا من ساداتها وصناع القرار فيها لم يقتنع بأن هذه الفكرة إن اعتنقوها وآمنوا بها سادوا العرب والعجم وملكوا الأبيض والأحمر، بل كان نظرهم قاصرا وكانت قلوبهم مستكبرة فلم ينظروا فيها إلا إلى تسفيهها عقول آبائهم ورفع شأن العبيد إلى مرتبة السادة والقضاء على عبادة الأوثان التي كان وجودها "ضرورة اقتصادية" لتجارتهم بما تدره عليهم من أموال.
ورغم كل المجهود المبذول لإقناعهم بصحة الرسالة وبفوائدها لهم إلا أنهم صدوا واستكبروا بل وانهالوا على المؤمنين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم حتى تآمروا لقتل صاحب الرسالة نفسه.
كان لابد للرسالة أن تجد أرضا تستقل بها فتحقق فيها الفكرة، ولكن أين الأرض؟ ومن ذا الذي يقبل أن يغامر؟.. ذلك هو صلب المشكلة التي تبحث عن حل.
(1) الحل موجود
هذه هي المنهجية الأولى في البحث عن حل، وهي الإيمان بأن الحل موجود للمشكلة القائمة، وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو –من ثَمَّ- لا يكلف الأمة ما لا تطيق وما ليس لها إليه من سبيل، إلا أن هذا الحل قد يخفى فلابد إذن من السعي للبحث عنه، وهو سعيٌ يؤمن بأنه يبحث عن شيء موجود.
ثلاثة عشر عاما قضاها النبي قبل أن يتوصل إلى الحل، لكن المهم في هذه الأعوام أنه لم يفتر ولم يسكت ولم ييأس أبدا، كانت كل المحاولات التي تنتهي بنتائج غير مرضية تزيد من عزمه ، فتبدأ بعدها محاولة أخرى.
وإني لأحاول أن أتصوره يجلس وهو في عمر الخمسين، بعد عشر سنوات من الجهاد والأذى يستعرض كيف قام بالدعوة منذ سنين وكيف أوذي وكيف عذب هو وأصحابه، وكيف حوصر في شعب أبي طالب حتى كادوا أن يهلكوا من الجوع، ثم كيف ذهب إلى الطائف وعاد منها مُهانا، ثم كيف يعرض نفسه على القبائل فترده القبائل كلها كأنما دبروا هذا بليل.
ثم أتصوره وهو عازم لم يثنه كل هذا، وما يزال يحاول ويجاهد، ويبحث عن أرض تقله وعن بشر يحمونه، حتى يُظفره الله بنفر الأنصار الذين كانوا بداية النصر والتأييد {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 62].
إن لكل مشكلة حل، لكن لا يصل إلى هذا الحل إلا من أخذ في البحث والتقصي واجتهد، قد يتعثر مرة ومرات لكنه سيجده. وصحيحٌ أنه قد يكون صعبا، وهي صعوبة تبلغ أن يقف النبي ناظرا خلفه إلى مكة التي يعانقها الليل فيقول دامعا "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"[3]. بل تبلغ أن يتذكر -بعد السنين والجهاد الطويل- أصعب يوم مَرَّ عليه وقد كان يوم الطائف.
(2) اكتب "جدول الأعمال"
الإيمان بوجود الحل يثمر وضع "جدول الأعمال" أو "خطط التشغيل"، ولقد كان لدى النبي "جدول أعمال" هذا: سنجرب هذا الطريق ونبذل فيه كل ما نستطيع، فإن لم ينجح فهذا، فإن لم ينجح فهذا ثم هذا ثم هذا... وهكذا حتى يصل بنا أحد هذه الطرق إلى الحل المطلوب.
إن الضرورة الشرعية والتاريخية التي تحتم قيام الدولة الإسلامية تجعلنا ننظر إلى الفترة المكية على أنها سيرة رجل يبحث عن القلوب ليهديها إلى الدين، ثم هو أيضا يبحث عن إقامة الدولة التي تتحقق بها الفكرة، وبهذا نفهم خطة السير أو "جدول الأعمال" الذي اعتمده النبي في هذه الفترة، ونستطيع أن نرى بوضوح ثلاثة بنود في هذا الجدول الذي يهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية.
البند الأول: محاولة إقناع سادة قريش وكبرائها، وكان حرصه على هذا عظيما إلى الحد الذي عوتب فيه بقرآن يصفه بأنه "يقتل نفسه" من الغم لعدم إيمانهم {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، ثم عوتب حين عبس لأعمى شغله عن جلسة مع كبار القوم، فنزل القرآن {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّ
الهجرة .. ومنهج البحث عن حل
مراجعة بواسطة عبده جمعة مدير تحرير رؤية قلم
في
7:55:00 ص
التقييم: 5
ليست هناك تعليقات