بقلم/ رمضان سالم العلالقة ..... ....الحالمة..........
في الريف الأخضر و بين قراه المتناثرة تجد هذه القرية الصغيرة التى لحق بها التقدم العمرانى , و فى أحد شوارعها الضيقة تجد هذه الدار الكبيرة المتداعية ذات الباحة الواسعة . كأنها تخلفت عن ركب التقدم الذى غير كل شى‘ حولها , أو أنها تقف كا شاهد يشهد ما كان يدور بين أركانها , و أيضا بين شوارع و أذقة هذه القرية الصغيرة 0
تسكن هذه الدار امرأة كبيرة و متداعية كأنها طلل لزمن بعيد. ترى على وجهها ردح زمن طويل , و أيام ظلت
تدور عجلاتها المتجبرة بكل قصوة و عناد كأنها تعمدت أن لا تترك هذه المرأة حتى تجعلها كا حطام امرأة , فاكانت
كا مذنب أبت الأيام أن تعفو عنه ظلاماته و أفكاره السجينة 0
تعيش بمفردها في هذه الدار الكبيرة ذات الباحة الواسعة و التى تنبعث منها رائحة الزمن فهى تقف كا أثر يشهد
مأساة هذه المرأة الكبيرة ,أو أنهما صديقتين تعاهدتا أن لا يفترقا مهما قصى عليهنا الزمن 0
إستيقذت في الصباح بعد أن باتت ليلة شديدة البرودة و الشمس أخذت تبعث بنورها و دفئها على الكون كأنها تبعث الحياة من جديد فتبدد الظلام و ذاب البرد القارص 0
خرجت العجوز إلى باحة بيتها الكبير المتأكل و إفترشت قطعة من الفراش العتيق , جلست عليها و ألقت بظهرها إلى الجدار المتأكل فى مواجهة لنور الشمس و دفئها كأنها تذيب ثلوج الزمن التى تراكمت على كاهلها لأوقات طويلة , و أخذت تشطح برائسها ذو الفاء الإبيض فى الماضى كأنها تسبح فى بحر مائج لا شاطى‘ له او أنها تقلب بين ثنايا صفحات الزمن و تتزكر أنها كانت فتاة جميلة ’ قوية البنيان وطويلة القوام , يتدلى شعرها على كتفيها كا سجى الليل , فكانت تمشى على ألارض فى ثقة كا ملاك عظيم أتى ليبارك ألارض و يسر الناظرين , فهى أمنية و غاية لكل شاب0
إذا من ذا الذي يتسلق أسوارها المنيعة ؟ 0
من ذا الذي يعلو قلاعها الحصينة ؟ 0
حين إذا تهز رئسها و ترسم على وشفتيها الزبيلتين بسمة ساخرة و تتذكر زوجها المتوفى منذ أكثر من عشرون عاما , حينما تقدم لخطبتها,0بكل تخلفه و تحجره , و الذى لا يمتلك من الثقافة غير موروثاته من العادات البائدة , فهو أيضا يكبرها بفارق كبير , لاكنه يمت بصلة القرابة لأمها النى اصرت على زواجها منه رغم رفضها القاطع 0
أخذت العجوز تهز رئسها مرة أخرى و تقول و هى تخاطب نفسها ( الله يرحمك يا أمى ) و يتردد صوت أمها فى
أذنها ( ما عندتاش بنات تختار ها تتجوزيه غصبا عنك ) عجزت الفتاة أمام تصلط الأم و إصرارها على إتمتم هذه
الزيجة بعد أن فشل كل رجاء و توسل من بعض أشقائها الذين إنشقوا فى هذا الأمر و أيقنت أنه القدر الذى يدفعها إلى ما لا تحب فليس أمامها إلا أن تستجيب لهذا القدر العنيد 0
و يأتي يوم الزفاف و تم فيه عقد القران وسط جمع كبير من المدعوين الذين تبادلوا عبارات التهنئة مع أهلها , الجميع يرسم على وجهه بسمة مجامله كأنهم يتزينون بها , و النساء أخذن يزين العروس فى غرفتها بكل أدوات الزينه و
الجمال , يبرزن مواقع جمالها فأصبحت كا تمثال أبدع فنان فى صنعه فكنت قطة من الجمال 0 خرجت العروس من
غرفتها إلى المكان المعد للزفاف و الملى‘ بالضجيج و الأضواء الساخبة وسط مجموعة من النساء و الفتيات اللاتى
تدوى زغاريدهن فى السماء فكانت بينهن كا زهرة حالمة وسط بستان أبت أن تتفتح زهوره 0
إلى أن وصلت إليه ألتقط يدها بقوة كأنه يستعرض قوته ظن أنه يجبرها لأحترمه من أول وهلة , ودعاها لتجلس إلى جواره كأنه يأمرها , نظرت إليه نظرة مليئة بالغضب و هى تقول لنفسها (ربنا غايز كده ) 0
ثم جلست إلى جواره ووضعت يديها المغلقتين بين ركبتيها و ألقت برائسها بين أكتافها كأنها تخفى جمالها عليه ,
و لم ترفع رائسها إلا على عبارات ساخرة تصدر من بعض الشباب الحاضرين تفيد برفضهم و السخرية لهذه الزيجة الغير متكافئة , سمعت هذه العبارات وبداء يتسلل الخوف الرهيب إلى صدرها إلى أن تم الزفاف و إنصرف
كل المدعوين و أصبحت تعيش مع زوجها فى الدار الكبيرة ذات الباحة الواسعة ويبدأ بينهما حديث جاف لم ترى
فيه غير الخشونة , ظلت هاكذا لأوقات طويلة تعودت خلالها البكاء المرير وتعودت أيضا أن تسمع ما لا تطيق
فهى المرأة المهزبة الجميلة, و هو الرجل المتخلف المتسلط بعدأن جمع بينهما زمن ملى‘ بعادات غاية فى صرامتها
كثيرا ما كانت تدور بينهما مناقشات حادة تتسم بالندية , إستعمل فيها الزوج الألفظ البزيئة و يكيل لها الإتهامات
و تنتهى إلى أنها مناقشات عقيمة و غير متكافئة 0
ظلت تنتابه شكوكه المتخلفة إلى أن فرض عليها رقابة لصيقة فهوى يتبعها أينما كانت حتى أصبح كظل لها لا
يجتمعان إلا عند الأقدام . كثيرا ما كان يسئلها بحدة ( رايحة فين ؟) , فهو يراها المرأة التى يجب عليها أن تطيعه
بكل تخلفه و تحجره و يجب عليها أيضا أن لا تشكو فهى تبوح بأسرار بيته 0
كثيرا ما كانت تضعه فى مقارنة مع غيره من الرجال و قليل ما كانت ترجح كفته , إلى أن يضيق صدرها فتحمل ملابسها غاضبة إلى دار أمها لتستريح من متاعبها التى فرضها عليها الزمن 0
تجلس إلى جوار أمها و تتوسلها أن ترحمها من أحزانها فهى لا تحبه , تضرب الأم بيدها على خديها و تقول (ياد
الفضيحة تطلقى ؟ ) , ترد عليها بكل توسل ( أيوه يا أمى ) ترد الأم و هى تشعر بحجم الألام و الهموم التى تراكمت
على صدر إبنتها (ما عندناش يا بنتى بنات اطلقت فى العيلة قبل كده 00 لازم تستحملى ! ) , تشعر أنها فقدت بارقة أمل و ترد على أمها ثائرة بصوت مرتفع يجمع بين الحزن و البكاء ( حرم عليك يا أمى تعستينى ) و تنصرف باكية إلى الدر الكبيرة ذات الباحة الواسعة كأنها تهرب من قاتل إلى قاتل و قبل أن تجلس لتستريح ينظر إليها زوجها و على وجهه كل علامات الكأبة سائلا بحده (قابلتى مين هناك ؟ 00 أنا عارف فيه ناس كثير بتروح هناك !) , تنظر إليه نظرة حادة بعد أن ضاق صدرها و تقول ( أنت عيز إيه أرحمنى حرام عليك !) 0
و يتصاعد بينهما الأمر إلى أنها مناقشة حادة كا العادة تشعر خلالها أنها تجوب نفق مظلم أو أنها تسير فى طريق مسدود تبعثرت فوقه أشواك كثيرة و ينتهى الأمر إلى أنها مناقشة عقيمة و لا جدوة منها , فهو ما زال عند شكوكه و أفكاره المتحجرة بل يدفعها إلى أن تلقى بأفكارها التى تربت عليها و تتبع أفكاره و عاداته البائدة ,
و يزداد ضيق صدرها لما تسمع فتنغمس عينيها بدموع البكاء المرير حتى تغيب فى نوم غير مريح 0
و ترفع العجوز يديها المرتعدتين ببطى ‘ شديد و تضعهما على وجهها المتجاعد لتمسح دموعها التى بدأت أن
تتساقط فى كبرياء دون أن تبكى ثم تضع يدها على رائسها و تداعب بأصابعها المرتعدة خصلات شعرها البيضاء كأنها تستدعى بقاية زكريات كاد الزمن أن يعفو عنها و تتذكر حبيبا أبى الزمن أن يجمع بينهما كأنه جلاد أقسم أن لا يرحمهما , فلا يجمع بينهما إلا ظروف متشابهه كأن الزمن جمع بينهما حتى يفرق بينهما أيضا 0
تتذكر كلامه المعسول الذى كان يختارها ليعبر به عن حبه الكبير لها , فهى تسمعه كارنين يطرب أذانها و قلبها المتعطش كا أرض غاب عنها الغيث منذ زمن بعيد حتى إذا جائها إهتزت و ربت ,
و هو أيضا يبحث عن حبا يملى‘ قلبه الشاغر , إلى أن نادا قلبه قلبها و قلبها أيضا نادا قلبه فألتقيا القلبين فى وداعة لقاء فراشتين على غصون زاهرة 0
يلتقيان بكل حظر و بعيد عن أعين زوجيهما , قليل ما كانا يلتقيان و للحظات قليلة تتوقف خلالها رحات الحياة الطاحنة , تشكو له خلالها مئساتها الكبيرة و هى يائسة ( مش عارفة أعمل إيه ؟ لا فى البيت مرتاحة و لاعند أمى مرتاحة !) 0
يتدخل بحديثة المعسول ليرفع القليل من أحزانها كأنه يداوي جروحا دامية (ما علبش ربنا عايز كدة ) ويغازلها بكلمان رقيقة كأنه شاعر عظيم , تسعد بها كثيرا فتختفى خيوط الحزن المرسومة على وجهها الجميل و
تتفتح شفتيها باسمة كازهرة أتى بها الربيع فتناثر عبيرها فى كل مكان , وهو لا يشكو لها همومه و أحزانه فهو لا يريد أن يحملها متاعبه هو أيضا , و يفترقا متمنيين لقاء غير معلوم الزمن و غير معلوم المكان 0
إلى أن يلتقيا مرة أخرى بعد وقت طويل تشعر خلاله أن الشمس قد إختفت من دنياها فسارت ظلام حالك , إنها إفتقدت حبيبا يروى ظمئة قلبها المتعطش إلى حبا لم يعرفه قلبها من قبل , إنها تعيش فى غربة حتى تراه أت من بعيد فتقف فى ثبات كأنها تمثال لملك عظيم , تقف معلقة عينيها عليه حتى يقف أمامها كأنه أمام قدره , و ينظر
فى عينيها الواسعتين كأنه يتصفحهما ليقرء ما كــان يحد ث خلال ألايام الماضية خـــلال غيبته ثم يبتسم لها و يقول
( وحشتينى) ترد عليه و هى مفحمة بالبكاء ( لاحد إمتا ؟ ) يرد عليها مدعيا أنه متماسك ( لاحد ما ربنا يأمر) ويصمت بره من الوقت ثم يكمل قائلا ( أنا حاسس إن ربنا مش ح يسبنا كده ) تأخذ نفس عيق و تطرده مبتسة كأنها
تسخر من القدر ثم تقول هامسة (إحنا عاملين زى وردتين إنزعو فوق صخر لازم يموتو ) يمسك يديها و يحماق عينيه فى عينيها كأنه يتحدى بها القدر و يقول لها متوسلا ( ما تقوليش كده حبنا ها يعيش ) ثم يكمل وعينيه ترقرقت
بالدموع و يقول (هافضل طول عمرى أحبك و حتى لو صحونى فى قبرى ها قول لهم إنى بحبك ) تغمض عينيها متوجعة كأنها تتأوه من أوجاع أصابت قلبها الكبير الذى يحمل داخله أسمى أيات الحب و أقصى درحات القصوة و الظلم و تقول بإعجاب شديد ( قد إيه أنت إنسان عظيم ) و لم يرد عليها إلا من خلال عينيه المترقرقة بالدموع و بسمة خفيفة تتراقص على شفتيها المرتعدتين ثم يدعوها للإ نصراف حتى لا يراهما أحد , و يفترقا متمنيين لقاء غير معلوم الزمن و غير معاوم المكان أيضا 0
و في طريق عودتها تشعر أن قلبها إرتوى بعد طول فترة جفاف , تعود و هى فى فرحة و نشوى كبيرة كا عصفورة تتطاير بين غصون أشجار كثيفة , حتى تقترب من الدار الكبيرة ذات الباحة الواسعة يعاودها إحساسها وشعورها السابق أن قلبها الذى إرتوى منذ قليل آ اخذ إلى الجفاف لقد تساقطت قطرات الحياة التى تبلل بها حين كانت معه تشعر أنها ستدخل سجن ويحكم عليها إغلاقه حتى فرحتها و نشوتها لم تدوم بها طويلا 0
و ظلت ألأمور تسير على نسقها أفكار متباينة بل شديدة التباين و تنافر فى القلوب أيضا , فهى تشعر أنها حبيسة أفكاره و ظنونه التى تنم عن عدم فهمه الجيد و ضيق آفاقه فهوغير قادر على تلبية مشاعرها الملتهبة و عواطفها الجياشة0
و حينما تدخل داره الكبيرة تظن أنه سجان قوى الجسد غليظ القلب لا يترك بابها بعد أن أحكم إغلاقه يقف كا حاجز
منيع بينها و بين أفكارها المتحضرة التى تربت عليها و لا مناص إلا تتبعه وتدور فى فلكه إلى أن يأتى الله بفضله 0
و بعد فترة طويلة إنقطعت خلالها أخبار حبيبها , لقد ترك القرية الصغيرة المكان الذى يشهد قصة حبهما العاثرة ,
قد رحل بعد ان تفاقمت الأمور و إلتفته دائرة الشك , رحل إلى حيث لا يدرى أحد 0
و بعد سنين طويلة إنقطعت خلالها أخباره لم يذاع عنه إلا خبر واحد سمعته كا صاعقة أو زلزال زلزل الأرض تحت أقدامها , لقد مات ! مات من كان يروى ظمئة قلبها المتعطش دائما , مات وترك الدنيا و ما تحمل من قصوة و ظلم , مـات و تركها لدنيا لا تحكمها إلا العادات الصارمة و التى أقسمت أن تسلبها كل شى‘ , مـات بعد أن تـقدم السن بالجميع 0
سمعت هذا الخبر و بداء الحزن الشديد يخيم على سائر جسدها , بدت كغريقة فى بحر من الحزن الشديد , لا تجد أمامها إلا الحزن أينما كانت , و عندما سمع زوجها هذا الخبر سعد به كثيرا فكان يجلس أمامها و تصدر منه ضحكات عالية و ساخرة ثم يهز رائسه و يبتسم بسمة ساخرة كان الزمن أتى بما تشتهيه نفسه و يقول (لسة بتحبيه ؟حبيه على كيفك) ترد و قلبها كاد أن يتمزق بين ضلوعها(ياشيخ حرام عليك) يرد بكل تهكم كأنه يسئلها (حرام ؟) 0
و هنا تدور المناقشة العقيمة و المليئة بالإتهامات و الألفاظ البزيئة كأنه تعود ذلك و كأنها أيضا تعودت سماعها ,
و تسير الآمور على هذا النحو لسنوات طويلة أخرى , إلى أن مرض زوجها مرض خطير كانت له اللزوجة الوفية
التى راعت كل القيم و المبادى‘ التى تربت عليها فهى المرآة المهذبة و ما كان لها من حب فهى لا تملك خفقات قلبها و ما كان بإرادتها و هو أيضا يتحمل كامل المسئولية إنه رجل ليس لديه لياقة فى الحديث , و رغم كل ذلك
كرست له كل أوقاتها و ظلت ترعاه و توليه كل إهتمامهاا حتى مات هو الأخر, مات بكل موروثاته من العادات
البائدة , مات و تركها كأنه تعاهد مع الزمن أن لا يتركاها إلا إمرآة وحيدة و متداعية مات بعد أن أصبحت إمرآة كهلة لا تقوى على معاونت نفسها , مات وتركها للدنيا التى إقسمت أن تخاصمها فى كل شى‘0
جلست أمامه و هو فى فراش الموت تبكيه مرة و تبكى حبيبها مرة أخرى و تبكى حياتها مرات و مرات و تقول له لائمة و عينيها تترقرق بالدموع التى بدءت أن تتساقط على وجنتيها الزبيلتين (أنت إللى سبت قلبى لما حب غيرك )
و تكمل و شفتيها تتراقص من شدة البكاء (حتى لما قلبى حب مارحمتش إللى حبه قلبى 0 الله يسامحك) 0
و أمتد بها الأجل لسنوات و سنوات و ها هى تقلب باكية فى أنقاد الزمن تبحث عن بقايا زكريات حبها العاثر , فأصبحت كاشراع فقد قلاعه فلا يدرى إلى أين يغدو بعد أن إشتدت به الرياح العاصفة 000 000
تسكن هذه الدار امرأة كبيرة و متداعية كأنها طلل لزمن بعيد. ترى على وجهها ردح زمن طويل , و أيام ظلت
تدور عجلاتها المتجبرة بكل قصوة و عناد كأنها تعمدت أن لا تترك هذه المرأة حتى تجعلها كا حطام امرأة , فاكانت
كا مذنب أبت الأيام أن تعفو عنه ظلاماته و أفكاره السجينة 0
تعيش بمفردها في هذه الدار الكبيرة ذات الباحة الواسعة و التى تنبعث منها رائحة الزمن فهى تقف كا أثر يشهد
مأساة هذه المرأة الكبيرة ,أو أنهما صديقتين تعاهدتا أن لا يفترقا مهما قصى عليهنا الزمن 0
إستيقذت في الصباح بعد أن باتت ليلة شديدة البرودة و الشمس أخذت تبعث بنورها و دفئها على الكون كأنها تبعث الحياة من جديد فتبدد الظلام و ذاب البرد القارص 0
خرجت العجوز إلى باحة بيتها الكبير المتأكل و إفترشت قطعة من الفراش العتيق , جلست عليها و ألقت بظهرها إلى الجدار المتأكل فى مواجهة لنور الشمس و دفئها كأنها تذيب ثلوج الزمن التى تراكمت على كاهلها لأوقات طويلة , و أخذت تشطح برائسها ذو الفاء الإبيض فى الماضى كأنها تسبح فى بحر مائج لا شاطى‘ له او أنها تقلب بين ثنايا صفحات الزمن و تتزكر أنها كانت فتاة جميلة ’ قوية البنيان وطويلة القوام , يتدلى شعرها على كتفيها كا سجى الليل , فكانت تمشى على ألارض فى ثقة كا ملاك عظيم أتى ليبارك ألارض و يسر الناظرين , فهى أمنية و غاية لكل شاب0
إذا من ذا الذي يتسلق أسوارها المنيعة ؟ 0
من ذا الذي يعلو قلاعها الحصينة ؟ 0
حين إذا تهز رئسها و ترسم على وشفتيها الزبيلتين بسمة ساخرة و تتذكر زوجها المتوفى منذ أكثر من عشرون عاما , حينما تقدم لخطبتها,0بكل تخلفه و تحجره , و الذى لا يمتلك من الثقافة غير موروثاته من العادات البائدة , فهو أيضا يكبرها بفارق كبير , لاكنه يمت بصلة القرابة لأمها النى اصرت على زواجها منه رغم رفضها القاطع 0
أخذت العجوز تهز رئسها مرة أخرى و تقول و هى تخاطب نفسها ( الله يرحمك يا أمى ) و يتردد صوت أمها فى
أذنها ( ما عندتاش بنات تختار ها تتجوزيه غصبا عنك ) عجزت الفتاة أمام تصلط الأم و إصرارها على إتمتم هذه
الزيجة بعد أن فشل كل رجاء و توسل من بعض أشقائها الذين إنشقوا فى هذا الأمر و أيقنت أنه القدر الذى يدفعها إلى ما لا تحب فليس أمامها إلا أن تستجيب لهذا القدر العنيد 0
و يأتي يوم الزفاف و تم فيه عقد القران وسط جمع كبير من المدعوين الذين تبادلوا عبارات التهنئة مع أهلها , الجميع يرسم على وجهه بسمة مجامله كأنهم يتزينون بها , و النساء أخذن يزين العروس فى غرفتها بكل أدوات الزينه و
الجمال , يبرزن مواقع جمالها فأصبحت كا تمثال أبدع فنان فى صنعه فكنت قطة من الجمال 0 خرجت العروس من
غرفتها إلى المكان المعد للزفاف و الملى‘ بالضجيج و الأضواء الساخبة وسط مجموعة من النساء و الفتيات اللاتى
تدوى زغاريدهن فى السماء فكانت بينهن كا زهرة حالمة وسط بستان أبت أن تتفتح زهوره 0
إلى أن وصلت إليه ألتقط يدها بقوة كأنه يستعرض قوته ظن أنه يجبرها لأحترمه من أول وهلة , ودعاها لتجلس إلى جواره كأنه يأمرها , نظرت إليه نظرة مليئة بالغضب و هى تقول لنفسها (ربنا غايز كده ) 0
ثم جلست إلى جواره ووضعت يديها المغلقتين بين ركبتيها و ألقت برائسها بين أكتافها كأنها تخفى جمالها عليه ,
و لم ترفع رائسها إلا على عبارات ساخرة تصدر من بعض الشباب الحاضرين تفيد برفضهم و السخرية لهذه الزيجة الغير متكافئة , سمعت هذه العبارات وبداء يتسلل الخوف الرهيب إلى صدرها إلى أن تم الزفاف و إنصرف
كل المدعوين و أصبحت تعيش مع زوجها فى الدار الكبيرة ذات الباحة الواسعة ويبدأ بينهما حديث جاف لم ترى
فيه غير الخشونة , ظلت هاكذا لأوقات طويلة تعودت خلالها البكاء المرير وتعودت أيضا أن تسمع ما لا تطيق
فهى المرأة المهزبة الجميلة, و هو الرجل المتخلف المتسلط بعدأن جمع بينهما زمن ملى‘ بعادات غاية فى صرامتها
كثيرا ما كانت تدور بينهما مناقشات حادة تتسم بالندية , إستعمل فيها الزوج الألفظ البزيئة و يكيل لها الإتهامات
و تنتهى إلى أنها مناقشات عقيمة و غير متكافئة 0
ظلت تنتابه شكوكه المتخلفة إلى أن فرض عليها رقابة لصيقة فهوى يتبعها أينما كانت حتى أصبح كظل لها لا
يجتمعان إلا عند الأقدام . كثيرا ما كان يسئلها بحدة ( رايحة فين ؟) , فهو يراها المرأة التى يجب عليها أن تطيعه
بكل تخلفه و تحجره و يجب عليها أيضا أن لا تشكو فهى تبوح بأسرار بيته 0
كثيرا ما كانت تضعه فى مقارنة مع غيره من الرجال و قليل ما كانت ترجح كفته , إلى أن يضيق صدرها فتحمل ملابسها غاضبة إلى دار أمها لتستريح من متاعبها التى فرضها عليها الزمن 0
تجلس إلى جوار أمها و تتوسلها أن ترحمها من أحزانها فهى لا تحبه , تضرب الأم بيدها على خديها و تقول (ياد
الفضيحة تطلقى ؟ ) , ترد عليها بكل توسل ( أيوه يا أمى ) ترد الأم و هى تشعر بحجم الألام و الهموم التى تراكمت
على صدر إبنتها (ما عندناش يا بنتى بنات اطلقت فى العيلة قبل كده 00 لازم تستحملى ! ) , تشعر أنها فقدت بارقة أمل و ترد على أمها ثائرة بصوت مرتفع يجمع بين الحزن و البكاء ( حرم عليك يا أمى تعستينى ) و تنصرف باكية إلى الدر الكبيرة ذات الباحة الواسعة كأنها تهرب من قاتل إلى قاتل و قبل أن تجلس لتستريح ينظر إليها زوجها و على وجهه كل علامات الكأبة سائلا بحده (قابلتى مين هناك ؟ 00 أنا عارف فيه ناس كثير بتروح هناك !) , تنظر إليه نظرة حادة بعد أن ضاق صدرها و تقول ( أنت عيز إيه أرحمنى حرام عليك !) 0
و يتصاعد بينهما الأمر إلى أنها مناقشة حادة كا العادة تشعر خلالها أنها تجوب نفق مظلم أو أنها تسير فى طريق مسدود تبعثرت فوقه أشواك كثيرة و ينتهى الأمر إلى أنها مناقشة عقيمة و لا جدوة منها , فهو ما زال عند شكوكه و أفكاره المتحجرة بل يدفعها إلى أن تلقى بأفكارها التى تربت عليها و تتبع أفكاره و عاداته البائدة ,
و يزداد ضيق صدرها لما تسمع فتنغمس عينيها بدموع البكاء المرير حتى تغيب فى نوم غير مريح 0
و ترفع العجوز يديها المرتعدتين ببطى ‘ شديد و تضعهما على وجهها المتجاعد لتمسح دموعها التى بدأت أن
تتساقط فى كبرياء دون أن تبكى ثم تضع يدها على رائسها و تداعب بأصابعها المرتعدة خصلات شعرها البيضاء كأنها تستدعى بقاية زكريات كاد الزمن أن يعفو عنها و تتذكر حبيبا أبى الزمن أن يجمع بينهما كأنه جلاد أقسم أن لا يرحمهما , فلا يجمع بينهما إلا ظروف متشابهه كأن الزمن جمع بينهما حتى يفرق بينهما أيضا 0
تتذكر كلامه المعسول الذى كان يختارها ليعبر به عن حبه الكبير لها , فهى تسمعه كارنين يطرب أذانها و قلبها المتعطش كا أرض غاب عنها الغيث منذ زمن بعيد حتى إذا جائها إهتزت و ربت ,
و هو أيضا يبحث عن حبا يملى‘ قلبه الشاغر , إلى أن نادا قلبه قلبها و قلبها أيضا نادا قلبه فألتقيا القلبين فى وداعة لقاء فراشتين على غصون زاهرة 0
يلتقيان بكل حظر و بعيد عن أعين زوجيهما , قليل ما كانا يلتقيان و للحظات قليلة تتوقف خلالها رحات الحياة الطاحنة , تشكو له خلالها مئساتها الكبيرة و هى يائسة ( مش عارفة أعمل إيه ؟ لا فى البيت مرتاحة و لاعند أمى مرتاحة !) 0
يتدخل بحديثة المعسول ليرفع القليل من أحزانها كأنه يداوي جروحا دامية (ما علبش ربنا عايز كدة ) ويغازلها بكلمان رقيقة كأنه شاعر عظيم , تسعد بها كثيرا فتختفى خيوط الحزن المرسومة على وجهها الجميل و
تتفتح شفتيها باسمة كازهرة أتى بها الربيع فتناثر عبيرها فى كل مكان , وهو لا يشكو لها همومه و أحزانه فهو لا يريد أن يحملها متاعبه هو أيضا , و يفترقا متمنيين لقاء غير معلوم الزمن و غير معلوم المكان 0
إلى أن يلتقيا مرة أخرى بعد وقت طويل تشعر خلاله أن الشمس قد إختفت من دنياها فسارت ظلام حالك , إنها إفتقدت حبيبا يروى ظمئة قلبها المتعطش إلى حبا لم يعرفه قلبها من قبل , إنها تعيش فى غربة حتى تراه أت من بعيد فتقف فى ثبات كأنها تمثال لملك عظيم , تقف معلقة عينيها عليه حتى يقف أمامها كأنه أمام قدره , و ينظر
فى عينيها الواسعتين كأنه يتصفحهما ليقرء ما كــان يحد ث خلال ألايام الماضية خـــلال غيبته ثم يبتسم لها و يقول
( وحشتينى) ترد عليه و هى مفحمة بالبكاء ( لاحد إمتا ؟ ) يرد عليها مدعيا أنه متماسك ( لاحد ما ربنا يأمر) ويصمت بره من الوقت ثم يكمل قائلا ( أنا حاسس إن ربنا مش ح يسبنا كده ) تأخذ نفس عيق و تطرده مبتسة كأنها
تسخر من القدر ثم تقول هامسة (إحنا عاملين زى وردتين إنزعو فوق صخر لازم يموتو ) يمسك يديها و يحماق عينيه فى عينيها كأنه يتحدى بها القدر و يقول لها متوسلا ( ما تقوليش كده حبنا ها يعيش ) ثم يكمل وعينيه ترقرقت
بالدموع و يقول (هافضل طول عمرى أحبك و حتى لو صحونى فى قبرى ها قول لهم إنى بحبك ) تغمض عينيها متوجعة كأنها تتأوه من أوجاع أصابت قلبها الكبير الذى يحمل داخله أسمى أيات الحب و أقصى درحات القصوة و الظلم و تقول بإعجاب شديد ( قد إيه أنت إنسان عظيم ) و لم يرد عليها إلا من خلال عينيه المترقرقة بالدموع و بسمة خفيفة تتراقص على شفتيها المرتعدتين ثم يدعوها للإ نصراف حتى لا يراهما أحد , و يفترقا متمنيين لقاء غير معلوم الزمن و غير معاوم المكان أيضا 0
و في طريق عودتها تشعر أن قلبها إرتوى بعد طول فترة جفاف , تعود و هى فى فرحة و نشوى كبيرة كا عصفورة تتطاير بين غصون أشجار كثيفة , حتى تقترب من الدار الكبيرة ذات الباحة الواسعة يعاودها إحساسها وشعورها السابق أن قلبها الذى إرتوى منذ قليل آ اخذ إلى الجفاف لقد تساقطت قطرات الحياة التى تبلل بها حين كانت معه تشعر أنها ستدخل سجن ويحكم عليها إغلاقه حتى فرحتها و نشوتها لم تدوم بها طويلا 0
و ظلت ألأمور تسير على نسقها أفكار متباينة بل شديدة التباين و تنافر فى القلوب أيضا , فهى تشعر أنها حبيسة أفكاره و ظنونه التى تنم عن عدم فهمه الجيد و ضيق آفاقه فهوغير قادر على تلبية مشاعرها الملتهبة و عواطفها الجياشة0
و حينما تدخل داره الكبيرة تظن أنه سجان قوى الجسد غليظ القلب لا يترك بابها بعد أن أحكم إغلاقه يقف كا حاجز
منيع بينها و بين أفكارها المتحضرة التى تربت عليها و لا مناص إلا تتبعه وتدور فى فلكه إلى أن يأتى الله بفضله 0
و بعد فترة طويلة إنقطعت خلالها أخبار حبيبها , لقد ترك القرية الصغيرة المكان الذى يشهد قصة حبهما العاثرة ,
قد رحل بعد ان تفاقمت الأمور و إلتفته دائرة الشك , رحل إلى حيث لا يدرى أحد 0
و بعد سنين طويلة إنقطعت خلالها أخباره لم يذاع عنه إلا خبر واحد سمعته كا صاعقة أو زلزال زلزل الأرض تحت أقدامها , لقد مات ! مات من كان يروى ظمئة قلبها المتعطش دائما , مات وترك الدنيا و ما تحمل من قصوة و ظلم , مـات و تركها لدنيا لا تحكمها إلا العادات الصارمة و التى أقسمت أن تسلبها كل شى‘ , مـات بعد أن تـقدم السن بالجميع 0
سمعت هذا الخبر و بداء الحزن الشديد يخيم على سائر جسدها , بدت كغريقة فى بحر من الحزن الشديد , لا تجد أمامها إلا الحزن أينما كانت , و عندما سمع زوجها هذا الخبر سعد به كثيرا فكان يجلس أمامها و تصدر منه ضحكات عالية و ساخرة ثم يهز رائسه و يبتسم بسمة ساخرة كان الزمن أتى بما تشتهيه نفسه و يقول (لسة بتحبيه ؟حبيه على كيفك) ترد و قلبها كاد أن يتمزق بين ضلوعها(ياشيخ حرام عليك) يرد بكل تهكم كأنه يسئلها (حرام ؟) 0
و هنا تدور المناقشة العقيمة و المليئة بالإتهامات و الألفاظ البزيئة كأنه تعود ذلك و كأنها أيضا تعودت سماعها ,
و تسير الآمور على هذا النحو لسنوات طويلة أخرى , إلى أن مرض زوجها مرض خطير كانت له اللزوجة الوفية
التى راعت كل القيم و المبادى‘ التى تربت عليها فهى المرآة المهذبة و ما كان لها من حب فهى لا تملك خفقات قلبها و ما كان بإرادتها و هو أيضا يتحمل كامل المسئولية إنه رجل ليس لديه لياقة فى الحديث , و رغم كل ذلك
كرست له كل أوقاتها و ظلت ترعاه و توليه كل إهتمامهاا حتى مات هو الأخر, مات بكل موروثاته من العادات
البائدة , مات و تركها كأنه تعاهد مع الزمن أن لا يتركاها إلا إمرآة وحيدة و متداعية مات بعد أن أصبحت إمرآة كهلة لا تقوى على معاونت نفسها , مات وتركها للدنيا التى إقسمت أن تخاصمها فى كل شى‘0
جلست أمامه و هو فى فراش الموت تبكيه مرة و تبكى حبيبها مرة أخرى و تبكى حياتها مرات و مرات و تقول له لائمة و عينيها تترقرق بالدموع التى بدءت أن تتساقط على وجنتيها الزبيلتين (أنت إللى سبت قلبى لما حب غيرك )
و تكمل و شفتيها تتراقص من شدة البكاء (حتى لما قلبى حب مارحمتش إللى حبه قلبى 0 الله يسامحك) 0
و أمتد بها الأجل لسنوات و سنوات و ها هى تقلب باكية فى أنقاد الزمن تبحث عن بقايا زكريات حبها العاثر , فأصبحت كاشراع فقد قلاعه فلا يدرى إلى أين يغدو بعد أن إشتدت به الرياح العاصفة 000 000
ليست هناك تعليقات