بأحب السيما بقلم : بهاء الدين بدوي
لكل منا في حياته ذكريات ومواقف لايمكن أن ينساها مهما طال عليها الزمن ولاتطمسها أو تمحو معالمها وأثرها السنون والأيام ، وتظل عالقة في ذهنه الى مالا نهاية .. وتبدأ القصة حين كنت في التاسعة من عمري مثلي مثل أي طفل له خيالاته وأحلامه وشقاوته البريئة . وكنت أسمع أصدقائي يتحدثون عن السينما ذلك العالم السحري العجيب الذي يعرض الأفلام على شاشة كبيرة بيضاء عرضها كعرض حائط أكبر غرفة في منزلنا ، وكنت أستمع اليهم وأنا مبهور بما يقولون خاصة اذا كانوا يحكون عن فيلم لفريد شوقي ، والذي كنا نسميه وقتها (سجيع السيمة ) ، وطبعاً كنا نقولها (سجيع ) وليس (شجيع) لأن معظمنا في هذا الوقت كنا نمر بمرحلة تغيير الأسنان اللبنية .
المهم .. الموضوع كبر في دماغي وقررت أن أدخل السيما مهما كلفني ذلك ، وكان هذا القرار بالنسبة لي في هذا الوقت من عمري هو بمثابة قرار في منتهى الجرأة والشجاعة – بل في منتهى التهور – لماذا ؟ أقول لحضراتكم لماذا .. كان أبي رحمة الله عليه رجل عسكري فقد كان ضابطاً في سلاح الطيران ، وكان رجلاً صارماً ، وكل شيء عنده لابد أن يسير بنظام وميزان وقانون ولايمكن أن يسمح أبداً بالحال المايل أو بأي تجاوزات داخل البيت أو خارجه ، وكنت أعلم ذلك عنه جيداً وأخشى بطشه وغضبه ، وكان مجرد التفكير في أن أطلب منه أن أذهب الى السيما مثل باقي أصحابي فكرة مستبعدة تماماً عن ذهنبي ، وأعلم الرد مسبقاً . وكذلك أمي رحمة الله عليها ، فقد كانت تخاف علينا كثيراً .. المهم وجدت نفسي في صراع لم يدم طويلاً ، وفي النهاية كما ذكرت لحضراتكم أخذت قراري الحاسم .. " هاأروح السيما ، يعني هاأروح السيما " ..
وبدأت أفكر في خطة وسيناريو التنفيذ . وهداني تفكيري الى فكرة (ماتخرش المية ) من وجهة نظري طبعاً .. أولاً إخترت السينما التي سأدخها ، وكان سينما درجة تالتة بجوار بيتنا في دوران روض الفرج بشبرا ، اسمها (سيما فلوريدا ) ، اخترتها لقربها من البيت ، وسعر تذكرتها المناسب لما يمكن أن يتوفر معي من نقود وقتها ، كانت تذكرة الصالة بثلاثة قروش ونصف ، والترسو بقرش صاغ ونصف على ماأتذكر . المهم إخترت الترسو طبعاً لسببين أولا لأنه رخيص على أد فلوسي ، ثانياً حتى أكون قريباً من الشاشة ، مما يمكنني من أن أرى الشاشة والممثلين بوضوح أكبر ، وكانت هذه السينما تعرض ثلاثة أفلام في بروجرام واحد ، والعرض مستمر ثلاث حفلات يومياً . وبقى أن أختار اليوم المناسب لتنفيذ خطتي الجهنمية للذهاب الى السينما ، ووجدت أن أنسب يوم هو يوم الجمعة .. أجازة مدارس والوقت متسع ومافيش أي مشكلة .. غير مشكلة واحدة (كيف سأحصل على ثمن التذكرة ) ، وطبعاً حليت المشكلة دي بكذبة سودا (قصدي كذبة بيضا ) .
إنتظرت الى أن جاء اليوم الموعود (يوم الجمعة ) وذهبت الى أمي رحمة الله عليها ، وقلت لها : أنا محتاج خمس قروش ، واستغربت أمي فلم تكن معتادة أن أطلب منها هذا المبلغ الكبير ، كان آخري قرش واحد أو حتى نصف قرش (تعريفة ) وسألتني : شلن بحاله ! ليه يامفتري ؟ ، وكان الرد جاهزا عندي بكل تأكيد ، وقلت لها : ياماما أنا عاوز أشتري كشكول وكراسة رسم طالبينها في المدرسة . وعلى الفور أخرجت البوك الخاص بها من المخبأ المعروف لجميع الأمهات المصريات. . المهم أخذت منها المبلغ ، ولكي أسبك الطبخة قلت لها سوف أمر على خالي سيد بعد شراء الكراريس ، قالت لي : لامانع وسلم لي عليه ، وقبلت يدها وهممت بالإنصراف ، وماإن فتحت باب الشقة إلا ونادت علي أمي : " ياواد يابيبو – نعم ياماما – خد بالك من نفسك – حاضر ياماما . وهممت مرة آخرى بالإنصراف - ياواد يابيبو – نعم ياماما – إمشي عل الرصيد – حاضر ياماما – ياواد يابيبو – ماتتأخرش – حاضر ياماما – وبدأت أختنق وأبرطم بالكلام – ياواد يابيبو ياواد يازفت – يقطع بيبو وسنين بيبو السوده " ملحوظة : (بيبو) ده اسم الدلع اللي كانوا بينادوني بيه وأنا صغير .. وكانت أمي مع كل ذلك مبتسمه ولاتفارق الإبتسامة الجميلة وجهها أبداً ، وعندما خرجت بدأت أمي في الضحك لسبب لم أعرفه وقتها ، وفيما بعد عرفت أنها كانت تضحك على منظر شفاتيري التي كانت تتمط وتمتد تلقائياً لمسافة عشرة سنتيمتر بقدرة قادر اذا تضايقت أو غضبت .. رحمك الله ياأمي كنتي خفيفة الدم وكنتي مبتسمة طوال حياتك ولم تفارق ابتسامتك الجميلة وجهك الى آخر يوم رغم الظروف الصحية الصعبة التي مررتي بها في آخر الأيام .. إشتقت اليكي كثيراً ياأمي .. رحمك الله رحمة واسعة .
نعود الى حكايتنا .. حانت ساعة الصفر ، وخرجت من البيت وأنا أتخيل نفسي جالساً في السيما في أول مقعد .. أخيراً سوف يتحقق حلمي .. لايهم ماسوف يحدث لي بعد ذلك .. لاشيء يهم .. لاشيء يهم .. وأخيراً سوف أنال المراد .. وكنت أسارع الخطى وأسابق الريح حتى ألحق حفلة الماتينيه التي تبدأ الساعة التاسعة والنصف صباحاً ، وطبعا لم يكن هناك ماتينيه ولا سواريه ، فقد كان العرض مستمراً . وفي الطريق قابلت محمد صلاح ، ومحمد صلاح هذا هو صاحبي الأنتيم وصديقي الحميم ، أعطيه سري ويعطيني سره ، يعني من الآخر ( إيدين في قميص ) .. وكنا نسميه في الشلة (محمد ليفة ) ليه ؟ لأن شعره كان خشن جداً ، وفي الشلة يوجد الكثير اسمهم محمد ، ولكي نميزه عن أي محمد آخر كنا نقول له محمد ليفه وأحيانا (ليفة) فقط حسب مايتيسر .. المهم .. سألني : رايح فين ياااد يابيبو ؟ ، فقت له هاأقول لك بس إوعى تقول لأي حد " قال لي : بالحرف الواحد (عيب يابيبو . إنت عارفني) ، وكنت أعرفه بكل تأكيد ، وأعرف أنه أكبر سوسة وفتان في الشلة ، ورغم ذلك وبكل سذاجة أخبرته بسري الكبير ، أنا رايح السيما تيجي معايا ؟ فإعتذر ليفة قائلاً لي : لأ معلش أنا رايح أشتري حاجة لأمي.. قلت له : ماشي ، مع السلامة ياليفة ، وانصرف كل منا لحال سبيله .
ولم أنس في طريقي أن أشتري لوازم السيما من لب سوري وسوداني ، وعيش فينو .. ليه العيش الفينو ؟ طبعاً مش بغرض الأكل ، ولكن لغرض آخر مختلف تماماً عن موضوع الأكل فلم أكن وقتها أفكر لافي أكل ولا في شرب ، ولكن لكي آخذ منه اللباب (العجينة ) واستعملها كمصيدة للحشرات التي من الممكن أن تصعد على قدمي أو يدي أثناء جلوسي ، فأنا لاأريد أي شيء أن يزعجني .. ودي كانت نصيحة ذوي الخبرة من اصدقائي الذين دخلوا سيما فلوريدا من قبل ، والواحد لازم يقبل النصيحة من أهل الخبرة .. طبعاً أمال ايه ! . وعلى ماأتذكر كان الثلاثة أفلام المعروضة هي فيلم : (أبو حديد ) بتاع سجيع السيما فريد سوقي ( قصدي فريد شوقي) ، وفيلم هندي اسمه (سنجام ) ، وفيلم تالت (أفرنجي) – مش فاكر اسمه .
المهم قطعت التذكرة بعد أن وقفت في طابور طويل في عز الحر والزحام الشديد على شباك الترسو ، ناهيك عن روائح العرق والروائح المقرفة التي تصدر عن جيراني في الطابور .. الخ الخ . كل دا مش مهم .. جاء دوري وأخذت التذكرة ، وأنا لاأكاد أصدق نفسي .. أنا أكيد باأحلم . وكنت من شدة فرحتي أريد أن أصرخ بأعلى صوتي : ( أنا هاأدخل السيما ياناااااس ياهووووه هاأدخل السيماااا ) لكني تمالكت نفسي وقلت إعقل ياواد يابيبو – الناس تقول عليك ايه : ( محدث نعمة ؟ محدث سيما ؟ ) .. المهم دخلت السيما بعد أن أن أن أن ن ن (موسيقة تصويرية ) . وجلست على أول دكة في الترسو وأنا أكاد أطير من السعادة والإنبهار .. ياخسارة بدأ الفيلم بقاله دقيقتين .. مش مهم لسة بيعرضوا في الأسماء والمقدمة .. والعرض مستمر .. الحمد لله الحمد لله .. هكذا كنت أقول في نفسي .
لكن يافرحة ماتمت " قليل البخت يلقى العضم في الترسو " .. فجأة وعلى حين غرة .. وبعد خمسة دقائق من بداية الفيلم .. أضاءت الأنوار واختفت الصورة من على الشاشة ، وسمعت صوتا ً جهورياً يأتي من آخر صالة السيما ، وينادي بإسمي : (يابهاء .. يابهااااااء .. يابيبو ) .. ماهذا ؟ معقول هذا جزء من الفيلم ؟ لالا لقد أوقفوا العرض .. هذا الصوت أعرفه جيداً .. ليس غريباً على أذني .. معقول ؟ يانهار اسود إنه صوت أبي .. ماالذي أتى به وكيف عرف مكاني .. وإرتعدت أوصالي من شدة الخوف ، ولم أستطع أن أرد عليه انعقد لساني .. ولا حتى أن أتحرك من مكاني .. وبسرعة نزلت تحت الدكة التي كنت أجلس عليها حتى لايراني ، وقلت في نفسي ( جالك الموت ياتارك الصلاه ) .. ماالذي حدث ، وكيف عرف مكاني ؟ (آه ه ه ، عملتها يامحمد ياليفة يابن الـ ..... ) المهم إنتظرت ولم أرد طبعاً حتى أطفأوا الأنوار مرة أخرى وذلك بعد أن سمعت أفظع الشتائم من الجمهور الكريم الذي لم يبخل عليً بالتشجيع والصفير والهتافات : " ماترد يابهاء ... رد يازفت .. رد ردت المية في زورك .. رد الله يخرب بيت ..... رد يابن الـ .... ) كل هذا لايساوي شيئاً أمام ماينتظرني من مصير مجهول وعلقة سودة سوف أتلقاها من بابا الله يرحمه ، ومش بعيد من ماما كمان .
وخرجت من السيما مرعوباً مخذولاً لاأدري إلى أين أذهب وماذا أفعل في هذا اليوم الأسود .. " وسرت وحدي شريداً ، محطم الخطوات .. تهزني أنفاسي .. تخيفني لفتاتي .. كهارب ليس يدري من أين أو أين يأتي" .. (على رأي عبد الحليم باشا حافظ ). وبدأت من جديد ألتقط أنفاسي وأستعيد هدوئي ورباطة جأشي حتى أستطيع أن أفكر ماذا سأفعل في هذا المأزق اللي مايعلم بيه الا ربنا .. إتجهت الى البيت وخطرت لي فكرة جهمية ، سوف أقوم بعمل خدعة بسيطة لاتخطر على بال ابليس نفسه . فقد كنا نسكن وقتها في الدور الأول ، وممكن لو أحضرت حجر كبير ووضعته تحت الشباك ، ففي هذه الحالة ممكن أن أتسلق مثل القرود وأدخل من الشباك الى غرفة النوم ، وهم جالسين في الصالة كالمعتاد ولن يشعروا بي ولن يراني أحد بكل تأكيد .. وخاصة أنني في المرحلة الثانية من الخطة لن أخرج إليهم ولكني سوف أدخل الدولاب وأغلق على نفسي باب الدولاب حتى لايروني ، هكذا هداني تفكيري العبقري وقتها ، ونفذت خطتي بحذافيرها وبكل دقة واتقان ، ودخلت الدولاب وأغلقت علىّ الباب ، وكلما سمعت صوت أبي في الخارج يتوعد ويصيح ينتفض جسمي ويرتعش ليس من السعادة طبعاً ولكن من حالة الرعب الإنساني والموقف اللاإنساني الذي كنت فيه .. كنت مثل الفأر الذي وقع في المصيدة ، لاأدري ماذا أفعل غير ذلك .. ومرت الدقائق ثقيلة بطيئة .. وبدأ الهواء ينفذ من داخل الدولاب وأنا قابعاً كامناً في مخبئي .. يمنعني الخوف من الخروج .. إني أختنق .. إني أتنفس تحت المااااء .. إني أغرق .. أغرق .. ووقعت داخل الدولاب مغشياً عليّ . ولكن لستر ربنا إرتطمت رأسي بباب الدولاب من الداخل وإنفتح الباب ووقعت على الأرض في حالة يرثى لها . وطبعاً سمعوا صوت ارتطامي على الأرض وصوت باب الدولاب يفتح ، فهرعوا مسرعين الى الداخل ووجدوني بهذا الوضع الخطير .. المهم أحضروا لي فحل بصل لكي أسترد وعيي ، وبعد أن أفقت أخذت في البكاء لكي أستدر عطفهم ، ولكن للأسف لم يجدي هذا نفعاً ، ولم تشفع لي دموعي ، رغم إني كان معروف عني إني كنت عنيد ولم أكن أبكي الا نادراً وللشديد القوي . وبعد أن إطمأنوا عليّ بدأت المحاكمة ..
س : كنت فين ؟ ج : ماكنتش . س : لأ كنت .. قول بسرعة كنت فين ؟ . ج: كنت هاأخش السيما .
س : ودخلت؟ ج: مالحقتش . س : فين الكشكول اللي إنت اشتريته ؟ ج: المكتبة قافلة .
س : فين الفلوس ؟ ج: وقعت مني . س : وقعت منك ازاي ؟ ج : جل من لايسهو .
المهم .. بعد نهاية التحقيق صدر الحكم ، وكان نص الحكم مايلي :
" بعد الاطلاع على أقوال المتهم بهاء الدين عبد الحكيم بدوي الشهير ببيبو ، وعلى أقوال الشهود من أصدقائه المقربين وهم محمد صلاح الدين بيومي وشهرته محمد ليفة ، ومصطفى حسين كامل وشهرته مصطفى بقلط ، فقد قررت المحكمة مايلي : أولا يتم ربط المتهم في عمود السرير لمدة 5 ساعات .. ثانيا يجلد المتهم بالحزام القايش الميري لمدة نصف ساعة بلا رحمة ولا هوادة . ثالثاً يحرم المتهم من المصروف اليومي لمدة أسبوع وممنوع أي أحد في البيت يكلمه أو يعطيه فلوس خلال هذه المدة . وذلك حتى يكون عبرة لمن يعتبر ولمن لايعتبر من اخوته الصغار حتى لايفكر أي واحد منهم مجرد تفكير إنه يروح السيما .. ويتم تنفيذ الحكم في ساعته وتاريخه .. ( وتصادق على الحكم بمعرفة الرائد عبد الحكيم بدوي .. رئيس المحكمة المنزلية ) " .
ويوميها أكلت علقة ماأكلهاش حمار في مطلع .. لاأنساها حتى يومنا هذا .. وربنا مايوريها لعدو ولا حبيب .. كرهت السيما وكرهت فريد شوقي .. وكرهت محمد ليفة .. وكرهت مصطفى بقلط .. وكرهت القايش الميري .. وكل دا لأنني كنت في يوم من الأيام ( باأحب السيما ) .
والى اللقاء في فيلم آخر .. والعرض مستمر ..
ليست هناك تعليقات