أحدث المواضيع

الحجر في مكانه..... بقلم علي الشافعي







الحجر في مكانه..... بقلم علي الشافعي
(الحجر في مكانه قنطار) مثل شعبي اعتدنا سماعه من ابائنا واجدادنا وفي مجالسنا , يرادفه مثل شعبي اخر( اللي بخرج من داره يقلّ مقداره) , أي ان المثلين يضربان لمن يترك ارضه ووطنه طواعية ام قسرا , الى ارض لم يالفها تماما كنخلة عبدالرحمن الداخل صقر قريش , مؤسس الدولة الاموية في الاندلس , والتي جيء بها من المشرق بناء على طلبه , ليزرعها في رصافة الأندلس ، فعاشا غريبين هناك ، وكان مرآها يهيّج مشاعره ، وكانت غربتها تذكره بغربته رغم مظاهر الملك والرئاسة ، التي تخفي تحتها قلبًا رقيقًا غريبًا :
تبدَّتْ لنا وسط الرُّصافةِ نخلـــةٌ تناءتْ بأرض الغربِ عن بلدِ النخلِ
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبـــة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وللخروج ــ ايها السادة ــ من الديار وهجرانها ومغادرة الاوطان اعتبارات اجتماعية واقتصادية وسياسية . كيف ؟ تعالوا نعرض الامر من جوانبه الثلاثة , فأقول وعمر القارئين يطول :
الاعتبار الاول : هو الاعتبار الاجتماعي او البرستيج , أي الهجرة من الريف الى المدينة , بلد الحضارة والرفاهية والمجتمعات المخملية , وذلك لان حياة الريف لم تعد مرموقة ومحبوبة لبعض بني الوطن , فينطلقون الى المدينة جريا وراء سراب , تماما كما حصل مع صاحبنا الذي سأروي لكم حكايته باختصار , انه السيد جريّد وزوجته المدام جرادة . وجريّد ـــ يا دام سعدكم ـــ احد فلاحي هذا الوطن , يحرث حقله ويزرعه , ويأكل من جني كفه وعرق جبينه , يتفيا ظل شجرة زرعها آباؤه واجداده , في ثمارها نكهة عرقهم , وياما رويت بدمائهم . يتناول فطوره تحتها ثم يكمل عمله الدؤوب , والارض تعطي من يعطيها , وتحب من يحبها . لكن جريد رُزق بزوجة برمة زنانة نقاقة نقارة فشارة , لا تعرف القناعة , وعلى راي المثل (لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب) . قالت له يوما : اما تعبت من حراثة الارض وزراعتها , تغل سنة تمحل اخرى , اما انا فقد تعبت واخشوشنت يداي الناعمتان , اريد ان ارتاح مثل بقية البشر . قال لها جريد : وكيف يكون ذلك يا عزيزتي ام الجرايد ؟ قالت نبيع الارض , ونشتري يثمنها شقة في المدينة , نرتاح فيها , ونخالط علية القوم وعلى راي المثل ( من جاور القوم 40يوما صار منهم ) . وافق جريد على فكرة زوجته مدام جرادة بعد جهد جهيد وتهديد ووعيد , باعا الارض وانطلقا الى المدينة يحلمان بعيشة سعيدة , في تلك المدينة العتيدة . وصلا المدينة , ففوجئا ان اسعار الشقق فيها بالعلالي , وان المبلغ الذي معهما لا يساوي ثمن شقة متواضعة , فاضطر للاقتراض من البنك . وبحث عن عمل فلم يجد الا عمل بائع على احدى بسطات الخضار في السوق . 
نعود لطيبة الذكر مدام جرادة , والتي رغبت في دخول صالونات المجتمع المخملي لتندمج مع صاحباته , لكنها لم تفلح بل اخذت نساء الذوات يسخرن منها , ومن طريقة حديثها ولبسها القروي , وحتى مشيتها حاولت تغييرها لتوائم صاحبات تلك الصالونات فلم تفلح . احست بالوحدة والاكتئاب , وهزها الحنين الى القرية ومجالس السمر النسائية , فصارحت زوجها بالأمر , وافق الزوج فباعا البيت , وعادا الى القرية يجران اذيال الخيبة , ولكنهما لم يجدا حفاوة الاستقبال التي اعتاداها , فسكنا على اطراف القرية وحيدين نادمين , متذكرين قصة الغراب الذي احب ان يقلد رقصة الحمامة فلم يستطع , فعاد الى مشيته الاولى فوجد نفسه وقد نسيها . 
اما الاعتبار الثاني ـــ يا دام عزكم ــ فهو الاعتبار الاقتصادي ؛ كأن يترك الانسان بيته متقلّبا في ديار الغربة بحثا عن لقمة عيش عزت وشحت في وطنه , ليجد نفسه مكبلا بقيود القوانين والعادات الاجتماعية في البلد الذي هو مضطر للعيش فيه , وكم من المغتربين فقدوا وظائفهم بسبب جهلهم بأعراف وقوانين البلاد التي يعيشون فيها , اذكر على سبيل المثال ان في بعض دول الخليج العربي ولعهد قريب كان الذي لا يصلي جماعة في المسجد لمدة ثلاثة ايام يعتبر كافرا مرتدا , يجلد ويستتاب او يلغى عقده , والتلفاز بدعة وصاحبه مبتدع ولا يجد من يؤجره بيته . 
اما الاعتبارات السياسية وما ادراك ما الاعتبارات السياسة ؟ فمن الناس من يجبَر على مغادرة داره , والهجرة الى ديار اخرى بسبب موقف سياسي او كلمة كتبها في جريدة , او امام جمع من الناس ؛ انتقد فيها سياسة حكومة ما من حكومات بني عرب , ليجد نفسه اما مسجونا او منفيا او لاجئا سياسيا , فتفرض عليه قوانين البلاد الجديدة وعلى راسها مصادرة حرية الفكر , التي هو بسببها غادر بيته , وتكون اول شروط مستضيفيه ان لا يمارس السياسة على ارضهم . 
ومن الاعتبارات السياسية ايضا هجرة شعوب بكاملها , لتحل مكانها شعوب اخري تحت سمع وبصر ومباركة العالم المتحضر , صاحب المدنيات الحديثة ومبادئ الديمقراطية والحرية . كما حصل لجزء من ابناء الشعب الفلسطيني . هذا يصده وهذا يرده وذلك يدجنه واخر يسيّسه ويصادر حريته وفكره وارادته وقراره , ويستخدمه لتنفيذ ماربه , او يزج به في أتونات الخلافات السياسية في بلاده , واذا رفض تمارس عليه الضغوط ويهدد بإلقائه خارج الحدود . 
ومنهم من وجد نفسه بين عشية وضحاها فريسة اطماع دولية , حطمت بلاده وشرّدته في الفيافي والقفار , واظنكم ـــ يا دام عزكم ــ تشاهدون ذلك بام العين , دول حطّمت وشعوب من حولنا شردت , واضطرت للهجرة الشرعية وغير الشرعية , ركبت البحار وقاست الاهوال , وشبع السمك من اجساد ابنائها فتقرش وتوحش , فقط من اجل الهروب بأطفالهم او ما تبقى من اطفالهم , بعدما اهلكت الة الحرب الزرع والضرع والوبر والمدر , ولم تبق ولم تذر . هؤلاء وفي هذا الخضمّ وجدوا انفسهم بلا ماوي , ولا كرامة , هل ينطبق عليهم المثل السابق رغم انهم يغادوا ديارهم بإرادتهم , ولو خيروا لما بدلوا الوطن بكنوز كسرى وقيصر .
اقول ـــ يا ايها السادة الكرام ـــ لا بد انكم تسمعون بالحجر الفلسطيني عظيم الشان بأيدي اطفال الحجارة ومقاليع الشبان , الذين تصدوا لالة الحب العسكرية الصهيونية , وقضّوا مضاجع الجنرالات واربكوا حساباتهم , وصنعوا فجرا مشرقا لامة استمرأت الخنوع في هذا الزمن العجيب . تري لو كان هذا الحجر في غير موضعه , اقصد لو كان خارج حدود الوطن المحتل , هل كانت له تلك القوة وذلك التأثير , وكم كان سيمارس عليه من الضغوط من قبل الاشقاء قبل الاعداء . هل عرفتم اذن لم نقول الحجر في مكانه قنطار . طبتم وطابت اوقاتكم .

ليست هناك تعليقات