أحدث المواضيع

المنصورة أجمل صورة بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي



المنصورة أجمل صورة
بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي
في عهد السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب .. الذي يعتبر آخر سلاطين الدولة الأيوبية .. أبحرت الحملة الصليبية السابعة بقيادة الملك لويس التاسع عام 1249 م من ميناء مرسيليا متجهة صوب مصر .. وما أن رست سفنها في ميناء دمياط أكبر موانئ البحر الأبيض المتوسط في ذلك الوقت .. حتى احتل الجيش الصليبي مدينة دمياط دون مقاومة أو قتال أو حرب .. بعدما أشاع الصليبيون كذبا خبر وفاة السلطان ما أصاب الجنود المرابطين على تخوم دمياط بالارتباك ، وبث الرعب في نفوس الأهالي ففروا جميعا ، وتركوا المدينة خالية تماما .. ثم واصلت الحملة الصليبية زحفها نحو القاهرة حيث دارت معركة المنصورة التاريخية الشهيرة ، وانتهت تلك الحملة برحيل الصليبيين عن مصر ، وهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة والذل والعار .. وقد لعب المماليك في تلك المعركة دورا كبيرا ، وأبلوا فيها بلاء حسنا ، وبزغ خلالها نجمهم ، ولاحت في الأفق بوادر حظهم لذلك تعتبر معركة المنصورة البداية الحقيقية لقيام الدولة المملوكية تحت قيادة السلطان عز الدين أيبك الذي حكم مصر في ظل أجواء إقصائية وتآمرية – لم تخل من سفك الدماء – سادت الدوائر الضيقة المغلقة في أعلى قمة هرم السلطة في ذلك العصر .
إن الحملات الصليبية التي غزت مصر لم تغزوها ، وتحارب شعبها ، وتحتل أراضيها .. بهدف استعراض القوة ، أو نهب الثروات فقط .. بل غزتها من أجل استعمارها مدة طويلة تكفي لتنفيذ مخططاتها الاستعمارية البغيضة .. لذلك كانت تلك القوات الغازية تصطحب معها النساء والأطفال ، كما كانت تجلب معها المعدات والمواد والمؤن والأدوات اللازمة لإقامة حياة معيشية كاملة لفترات زمنية طويلة .. وهذا ما يفند أية شبهة ، ويبطل أي ادعاء .. ينال من شرف أبناء الشعب المصري العظيم وخصوصا أبناء المنصورة ، ويكشف زيف وكذب وبهتان ما يشاع .. ويتم ترديده غالبا على سبيل الدعابة والمزاح .. خصوصا في أوساط الشباب بل العكس هو الصحيح تماما .. أما الدليل فهو تلك الأعداد الغفيرة من النساء والأطفال الذين تركهم الصليبيون حينما فروا من ميدان القتال كما تفر الفئران التي حاصرتها النيران .
ألحق الجيش المصري العظيم هزيمة فادحة بجيوش الصليبيين في معركة المنصورة التي كتبت كلمة النهاية للحملة الصليبية السابعة على مصر ، وحكمت على جنودها وضباطها بالفناء فكان مصيرهم إما قتيل ، أو جريح ، أو فار ، أو مفقود ، أو أسير .. والأروع مما سبق أن المصريين توجوا نصرهم التاريخي في يوم 8 / 5 / 1250 م بأسر قائد الحملة الفرنسية السابعة الملك لويس التاسع ذات نفسه ، والأمراء ، والقادة ، والنبلاء المرافقين له ، وكبلوهم بالأغلال ، وسجنوهم في دار القاضي ابن لقمان في ذلك اليوم المشهود في تاريخ المصريين الذي كتبه خير أجناد الأرض بدمائهم الزكية واتخذته محافظة الدقهلية عيدا قوميا لها تحتفل به كل عام .
اشترط المصريون دفع مبلغ مالي كبير فدية لإطلاق سراح الملك الأسير ، والأمراء ، والقادة ، والنبلاء الذين أسروهم معه ، والجنود ، والنساء ، والأطفال .. لكن فرنسا دفعت نصف الفدية المفروضة لتحرير رأس الملك ومن معه من الصفوة ، وتركت الجنود العاديين والنساء والأطفال كضمانة لسداد بقية الفدية .. لكنها لم تلتزم بالسداد ، ولم تهتم بتحرير بقية الأسرى الذين عاملتهم مصر بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية السمحة ، وبما يتفق مع العادات ، والتقاليد ، والمبادئ ، والأعراف المصرية الراسخة .. وبعد مضي فترة أمسك المصريون بزمام المبادرة ، وأطلقوا سراح جميع الأسرى .. وكانت المفاجأة حيث أبى غالبية الأسرى أن يعودوا إلى فرنسا مرة أخرى ، ربما رفضوا العودة نكاية في بلادهم التي تخلت عنهم ، وربما لأنهم تيقنوا من ظلم حكامهم ، وربما لأنهم ذابوا عشقا في مصر التي أكرمت مثواهم ، وربما رفضوا العودة لهذه الأسباب مجتمعة ، لذا أبدوا رغبتهم في اعتناق الدين الإسلامي الحنيف ، وفضلوا البقاء في أم الدنيا – وهنا تتجلى عظمة هذا الوطن الذي يملك جاذبية نادرة – وأحبوا شعبها الطيب الأصيل ، وانصهروا بين أبنائه وعاشوا معهم في وئام منقطع النظير ، وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من نسيجه الوطني العظيم ، واختار معظمهم الإقامة في مدينة المنصورة ، وتصاهروا مع بقية العائلات المصرية ذات الأصول الفرعونية العريقة ، وغيرها من العائلات الأخرى ذات الأصول الشامية ، والتركية ، واليونانية ، والإيطالية ، والمملوكية الفاتنة الجمال التي كانت تعمل بالتجارة وتقطن في مدينة المنصورة في ذلك الزمان .. ومن هنا أصبحت المنصورة أجمل صورة .
لا شك أن الخليط العرقي على النحو الذي أشرت إليه ، وما صاحبه من تنوع ثقافي ، وتباين اجتماعي جعل غالبية أبناء المنصورة يتمتعون بوهج فكري ملموس ، ونبوغ فطري معروف ، وذكاء اجتماعي ملحوظ وليس أدل على ذلك من هذا العدد الملفت للانتباه من أبناء محافظة الدقهلية من المثقفين والقادة والعباقرة والعلماء وكبار المشاهير الذين تركوا بصمة واضحة في شتى العلوم وكافة الميادين ليس في مصر فقط بل على مستوى الوطن العربي كله والعالم أجمع .. منهم على سبيل المثال لا الحصر ، مع حفظ الألقاب ، وبدون ترتيب أو تعقيب : أم كلثوم ، والأخوين فاروق وأسامة الباز ، وأنيس منصور ، وعبداللطيف بغدادي ، ورفعت السعيد ، ومتولي الشعراوي ، وإبراهيم شكري ، وعادل إمام ، ويونس شلبي ، ورياض السنباطي ، وسامي عنان ، وعبدالحليم قنديل ، وفؤاد سراج الدين ، وجاد الحق على جاد الحق ، وسعد هجرس ، ومحمد غنيم ، وعلي مبارك ، وأحمد لطفي السيد ، ومحمود مختار ، وفاتن حمامة ، ومأمون الشناوي ، وغيرهم من الأعلام المصريين البارزين الذين برعوا في كافة العلوم ، واحتلوا المقدمة عن جدارة في شتى الميادين .
إذا كان من حق أبناء محافظة الدقهلية أن يفخروا بما سطروه بأرواحهم من بطولات في معركة المنصورة ، وأن يتباهوا بما حققوه بعزائمهم من أمجاد بأسرهم الملك لويس التاسع فمن حقهم أيضا أن يفخروا بثورتهم على التوريث والفساد والتهميش والاستبداد بمشاركتهم التاريخية في مظاهرات ثورتي 25 يناير 2011 م و 30 يونيو 2013 م الشعبيتين الخالدتين الأعظم في تاريخ البشرية ، وأن يفخروا بأنهم من أوائل المحافظات التي أشعلت الفتيل الأول للثورة فاحتلت الترتيب الرابع بلا منازع بعد كل من : القاهرة ، والإسكندرية ، والسويس .. نعم من حقهم أن يفخروا بمقاومتهم الباسلة للظلم والبطش والطغيان في كل عصر وزمان في تاريخ الأوطان .

ليست هناك تعليقات