بقلم سامية سليمان الأسياد { قصة قصيرة }
الأسياد { قصة قصيرة }
-------
كل شيء حوله يثير الأعصاب .. القطار يتلكأ بين المحطات .. أصوات الباعة داخل القطار تعلو علي صوت احتكاك العجلات بالقضبان .. الركاب يتزاحمون .. يثرثرون .. يتشاجرون .. من يحمل قفة .. من تحمل طستا .. ومن تحمل طفلا لا يكف عن الصراخ .. حتي الجريدة تثير أعصابه وهو يقرأ العناوين :
- البحث العلمي يكشف إمكانية الاستنساخ ..
ماهذا ؟ هل سيصنعون أحياءُ .. ؟ وهل يمكن أن يستنسخوا مني طفلا بعد هذا العمر الطويل المجدب بلا خلفة ؟
- نجحت التجارب في انتاج طفل الأنابيب في بعض الدول المتقدمة .. ولكن في بعض الدول الأخري هناك جدل حول شرعية أو حرمانية هذا العمل ..
- هذا كفر والعياذ بالله .. قالها في سره الحاج إبراهيم وهو موجه بالتربية والتعليم .. اقترب من سن المعاش .. طويل القامة .. أسمر اللون .. يقترب شعره من اللون الرمادي .. وله شارب كث ..
يواصل قراءة العناوين :
- العلماء يكتشفون إمكانية الحياة علي بعض الكواكب الأخري ..
يعلق : هذا من عجائب الزمن يللا خلّي الأرض تروق شوية..
يستمر في القراءة .. يتمتم بكلمات غير مفهومة .. يهز رأسه ويمط شفتيه متعجبا .. ويتابع الجريدة.....
- العولمة ضرورة من ضرورات العصر ..
يصعد رجل معمم يرتدي جلباباوقد أمسك بذيل الجلباب بأسنانه .. واستند علي باب القطار سائلا الركاب :
- هوه الجطر ده رايح علي فين ؟؟؟
أخيرا وصل القطار إلي محطته .. تزاحم الركاب والباعة بأحمالهم عند الباب.. يحاول الحاج إبراهيم النزول ويجد صعوبة .. بدأ القطار يتحرك .. يدفعه البعض دفعا إلي الرصيف.. سقط علي الأرض .. جرحت ركبته .. يحاول الوقوف ..أخرج منديله القماش وربط الجرح .. لكنه يزك علي قدمه .. بعد خطوات عثر علي فرع شجرة ملقي علي الأرض .. أخذه ليتكيء عليه .. اشتري من الباعة المتراصين علي الرصيف حزمة فجل وبعض الأرغفة السمراء .. سار متكئا علي فرع الشجرة .. وصل إلي الحارة التي يسكن بها .. وقد عاد من مأموريته - في البلدة التي كان بها -والمحدد لها أسبوع بعد أن أنهاها في ثلاثة أيام ..
وصل إلي البيت .. وقد تأبط جريدته تحتضن حزمة الفجل والأرغفة .. لازال بيده فرع الشجرة .. سمع دقة زار .. رأي الأولاد أمام البيت يتراقصون علي الدقة .. لم يعهد أن يعمل في بيته زار منذ سكنه .. تساءل :
هل هذا يمكن أن يحدث بعد غيابي بأيام قلائل ؟ تحرك .. سأل بعض الأولاد المتواجدين أمام البيت :
- في أي شقة هذا الزار ؟
- ردوا بسخرية : في شقتك ياحاج ...!!!
- اغتاظ .. زجرهم مشيرا بفرع الشجرة :
- طب يللا انت وهوه علي بيوتكم ..
صعد إلي شقته .. دق الباب .. فتحه رجل تتدلي ذقنه علي صدره وتتدلي من تحتها بعض عقود من الخرز الملون .. وبيده دُف لا يزال يدق عليه بقوة ويهز رأسه يمينا ويسارا في عنف فسأله الحاج إبراهيم :
- أين صاحبة هذا الزار ؟
أجابه مشيرا إلي امرأة بدينة .. مظهرها لا يوحي بالارتياح .. تجلس علي الأرض وبيدها دف تدق عليه ..
- الكوديا رئيسة ..
نظر حوله فوجد امرأة تتوسط النسوة وقد نكشت شعرها وترتدي ملابس حمراء وتتنطط مثل القردة ..
أشار الرجل ذو اللحية ناحيتها عندما رآه ينظر إليها مشدوها قائلا :
- دي الست بهية ..
وهي سيدة بيضاء .. بدينة .. قصيرة القامة .. مشرفة علي الأربعين .. تزوجها الحاج إبراهيم منذ أكثر من عشرين عاما ..
لم تشعر أي من النسوة بوجوده لانهماكهن في الرقص .. وقد غطت شعورهن وجوههن .. وهن يتمايلن بعنف يمينا ويسارا علي دق الدفوف ..ودخان البخور يملأ المكان .. وقد جهزت سفرة طويلة علي الأرض تحوي صنوفا من المشويات والحلوي والفاكهة والعصائر .. وكما أمر المنجم الست بهية أن يكون ضمنها ديك بلدي أحمر بدون علامة .. وآخر رومي أسود منقط الذيل .. كطلب الأسياد .. كما يدعي ..
شرد بذهنه لحظة سائلا نفسه :
- ما كل هذا البذخ ؟ وهي دائما تشكو من قلة المصروف وقلة الحيلة ولا تطبخ لنا سوي العدس والبصارة بالتبادل .. !!
وتملكه الغضب لما يجري حوله .. فرفع فرع الشجرة بغل .. وأخذ يضرب كل من حوله بكل ما أوتي من قوة .. ففروا جميعا .. عدا زوجته التي وقفت بأحد الأركان ترتعد من الخوف .. وقد أيقنت أن حسابها عسير .. وربما يصل إلي الطلاق .. فزوجها رجل متدين لا يعترف بمثل هذه الأمور .. ولم يسبق لها أن رأته بمثل هذه الشراسة ..
دخل عليها وأمسك بذراعها .. كاظما غيظه وسألها :
- ليه عملتي الزار ؟
ردت عليه وهي ترتجف :
- عشان .. عشان بسم الله الرحمن الرحيم .. قالولي إن عليَّ أسياد .. وكمان نفسي ف حتة عيِّل يملا علينا البيت ..
- ومين قال لك هذا الكلام ؟
- الست ام جمالات الداية .. قلت لها إن مزاجي مش رايق .. وباحلم أحلام مزعجة .. ونفسي ف عيِّل .. قالت لي : لازم عليكي أسياد .. إعملي زار ..
- وسمعتي كلامها - !! طيب كنتِ قوليلي إن عليكي أسياد .. وأنا أطلعهم لك علي طول .. وأروق مزاجك كمان ع الآخر .. بس كده ..
ورفع فرع الشجرة وانهال عليها ضربا بعنف وهي تصرخ قائلة :
- حرمت ياحاج .. كفاية ياحاج .. ح اموت ياحاج .. وهو يسألها ولا زال يضربها :
- همه الأسياد طلعم ولاّ لسّه ؟
- أجابته وهي في منتهي الإعياء والألم :
- طلعم ياحاج .. طلعم ..
رد قائلا : الحمد لله .. ونظر إليها .. تذكر عناوين الجريدة وتمني أن ينجح الاستنساخ في أن يهبه طفلا فالعلم الآن سيد المواقف .. ولا قيمة لخزعبلات وأسياد الكوديا رئيسة .
ألقي فرع الشجرة جانبا وهو يلهث .. وجلس إلي المائدة قائلا :
- ناكل لنا بقه لقمة ترُم عضمنا .. وتنهد قائلا :
- وياريتك تكوني استنسخت لنا كام ديك من المحمرين دول ..
فغرت فاها .. وحملقت بعينيها .. ولم ترد .
سامية سليمان
ليست هناك تعليقات