تغريدة الشـــــــــعر العربي بقلم : السعيد عبد العاطي مبارك – الفايدي
تغريدة الشـــــــــعر العربي
بقلم : السعيد عبد العاطي مبارك – الفايدي
------------------------------------------------
((( مع شاعر الاطلال و الرومانسية )))
ابراهيم ناجي " 1898م – 1952 م "
في ذكراه -------
رفْرَفَ القلبُ بجنبي كالذبيحْ وأنا أهتف: يا قلبُ اتّئدْ
فيجيب الدمعُ والماضي الجريحْ لِمَ عُدنا؟ ليت أنّا لم نعد !
لِمَ عُدنا؟ أَوَ لم نطوِ الغرامْ وفرغنا من حنين وألمْ
ورضينا بسكون وسلامْ وانتهينا لفراغ كالعدم؟!
" من قصيدة : العودة "
هذا الشاعر عرفته منذ نعومة أظفاري بفضل ملحمة الاطلال الرائعة التي تغنت بها ام كلثوم و حفظها الناس لحلاوتها و صدق مشاعرها تجربة ذاتية حقيقية عاشها الشاعر بين احلام و اوهام و نسج كلماتها بعبقرية فريدة تنم عن موهبة فذة رومانسية تجل المتلقي يعيش جوها كأنها وليدة الساعة فهي من عيون الشعر العربي ---
ثم قرأت عنه في كتاب فاروق شوشة أحلي عشرين قصيدة حب ----
فرحت اقلب عنه ثم درست له قصيدة " العودة " في الجامعة من خلال تذوق الشعر العربي المعاصر في اطار مذاهبه الفنية للمدارس الحديثة و هكذا قدمت عنه دراسات و منها في كتابي " أطباء شعراء " ان حياة و شعر ناجي تستحق الوقفات الطويلة كلما حان الوقت كي نرشف من منابعه الصافية البكر كل رائع ---
و قد عان هذا الشاعر الرومانسي المجدد ابن مدرسة ابوللو من عمالقة النقد في بداية الابداع عند اصدار ديوانه الاول بعنوان " وراء الغمام " فذبحه طه حسين و العقاد لكن الكلمة الصادقة المؤثرة تقدم نفسها للجماهير مهما حاول البعض ان يغتالها في ضحي العمر انها بعض مأساة ناجي نستلهما و نسترجها في ذكراه اليوم ---- !!
حبث قال طه حسين عن ديوان وراء الغمام لناجي :
"إنها أشعار حسنة، ولكنها أشعار صالونات لا تتحمل أن تخرج إلى الخلاء فيأخذها البرد من جوانبها"..
ويبدو أن إبراهيم ناجي بعد أن قرأ نقد طه حسين هذا، خرج فعلاً إلى الخلاء، فكاد يموت..
وتفصيل ذلك أن ناجي كان قد سافر إلى أوروبا بعد صدور ديوانه، ليشارك في مؤتمر طبي بلندن. وفي غربته كان يتتبع الصحف المصرية كي يعرف ردود فعل النقاد على ديوانه فاطلع على مقال طه حسين هذا. ولما وصل إلى العبارة التي نقلناها آنفاً، أظلمت الدنيا في وجهه، وضاقت به الأرض على سعتها، فخرج إلى شوارع لندن تائهاً. وبينما هو في هيمانه وألمه، صدمته سيارة هشّمت منه الحوض، نُقل بعدها إلى المستشفى فلازم الفراش لأسابيع يقاوم البرد والسكر والمرض والمحنة النفسية. بعدها خرج على عكازين يجرر ساقيه ويركب الباخرة عائداً إلى وطنه..
ثم تدور الاحداث و يعدل طه حسين عن رأيه و يشيد بشعر ناجي في المحافل فيما بعد ----- !!
فقد كتب في "جريدة الوادي" (سنة 1934) مقالاً قال فيه: "إني لم أحزن حين رأيت الدكتور ناجي يعلن زهده في اشعشر، لأني قدّرت أن الدكتور ناجي إن كان شاعراً حقاً، فسيعود إلى الشعر راضياً أو كارهاً، سواء ألححتُ عليه في النقد أو رفقتُ به. وإن لم يكن شاعراً فليس على الشعر بأس في أن ينصرف عنه، ويزهد فيه. وأنا منتظر أن يعود الدكتور ناجي إلى جنة الشعر، فإني أرى فيه استعداداً لا بأس به، وأظنه أن عني بشعره، واستكمل أدوات الفن خليقاً أن يبلغ منه شيئاً حسناً".
وتضمن مقال طه حسين فقرة ملفتة أثبت الزمن صحتها: "هوّن عليك. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. لقد عمد نقاد قساة غلاظ مسرفين في العنف إلى بعض الشعراء والكتاب، فألحوا عليهم في النقد، وأشبعوهم تجريحاً وطعناً. ولكن الأدباء، مع ذلك، ظفروا بالبقاء، وذهب نقد النقّاد هباءً. فمن كان من أدبائنا خليقاً بأن يبقى وينتج وينفع الناس، فليس عليه بأس منك ولا مني ولا من غيرنا. ولعله أن يظفر من الحياة والخلود بما لا نظفر منه بالقليل".
وقد صدق طه حسين. ذهب نقده لإبراهيم ناجي، كما ذهب نقد عباس محمود العقاد لنفس الشاعر، جفاءً أو هباءً، وبقي إبراهيم ناجي شاعراً حقيقياً مبدعاً من اعلام الشعر الرومانسي الرقيق الذي يستحوذ علي لب قارئه ودارسه انها عبقرية ناجي الفذة مع نمضي في ذكراه الحقيقية هنا -----
نشـــــــــــــأته :
---------------
ولد الشاعر و الطبيب إبراهيم ناجي شاعر في 31 ديسمبر 1898م في حي شبرا في القاهرة، وتوفي عام 1952م، عندما كان في الأربعة والخمسين من العمر.
تخرج ناجي في (مدرسة الطب) عام 1922, وعين حين تخرجه طبيباً في وزارة المواصلات، ثم في وزارة الصحة، وبعدها عيّن مراقباً للقسم الطبي في وزارة الأوقاف.
عاش في بلدته -أول حياته- المنصورة وفيها رأى جمال الطبيعة وجمال نهر النيل فغلب على شعره -شأن شعراء مدرسة أبولو-الاتجاه العاطفى. أصيب بمرض السكر في بداية شبابه فتألم كثيرا لذلك وتوفي عام 1953.
مع مقطوعة من شعر ابراهيم ناجي " الأطلال " التي عرف و لقب بها لجمال روعتها و ذيوعها و انتشارها بين الناس شرقا و غربا و لا سيما بعد ان تغنت بها سيدة الطرب كوكب الشرق " أم كلثوم " يقول فيها :
يا فؤادي، رحم الله الهوى كان صرحا من خيال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله وارو عني، طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً وحديثاً من أحاديث الجوى
وبساطاً من ندامى حلم هم تواروا أبداً، وهو انطوى
فهو صاحب شاعرية مرهفة ذاتية تترجم احاسيسه مع تجارب الحياة يعشق الحب و الجمال و الخيال يجنح الي عالم الفضيلة و المثل من اجل واقع يحتوي كل الاحلام و من هنا نلمح في قصائده الحزن و الامل في تحولات تكشف علي صدق تعاملاته من خلال بعض قصائده " الاطلال - العودة - دموع - الليل ---- "
من دواوينه :
=======
وراء الغمام 1934 م. - ليالي القاهرة 1944 م. - في معبد الليل 1948 م. - الطائر الجريح 1953 م. وغيرها...
كما صدرت أعماله الشعرية الكاملة في عام 1966 بعد وفاته عن المجلس الأعلى للثقافة.
قصائد مجهولة جمعها حسن توفيق لناجي ---
مع مختارات من شـــــــــــعره :
-----------------------------
و من خلال ذكراه التي تواكبنا في هذه الايام نعيش مع كلمات قصيدة " صخرة الملتقي " يصور لنا مدي الحزن و القلق و الاغتراب الذي لازم ناجي فترات من عمره فهو يتعذب لكنه صلدا قويا كصخرة يظل يحلم بالملتقي فيبوح بكل همومه و يتسائل عن محبوبته متي يلتقي بها حيث يجمع الله الشتيتان بعد ان تفرقا انها رحلة ناجي مع مأساة تجسد حجم حرقته --- فيقول فيها :
قصيدة صخرة الملتقى:
سألتك يا صخرة الملتقى متي يجمع الدهر ما فرقا
فيا صخرة جمعت مهجتين أفاء إلي حسنها المنتقي
إذا الدهر لج بأقداره أجدا علي ظهرها الموثقا
قرأنا عليك كتاب الحياة وفض الهوي سرها المغلقا
نري الشمس ذائبة في العباب وننتظر البدر في المرتقي
إذا نشر الغرب أثوابه وأطلق في النفس ما أطلقا
نقول هل الشمس قد خضبته وخلت به دمها المهرقا
أم الغرب كالقلب دامي الجراح له طلبة عز أن تلحقا
فيا صورة في نواحي السحاب رأينا بها همنا المغرقا
لنا الله من صورة في الضمير يراهاالفتي كلما أطرقا
يرى صورة الجرح طي الفؤاد ما زال ملتهبا محرقا
ويأبي الوفاء عليه اندمالا ويأبي التذكر أن يشفقا
ويا صخرة العهد أبت إليك وقد مزق الشمل ما مزقا
أريك مشيبَ الفؤاد الشهيد والشيبُ ما كلَّل المفرِقا
شكا أسره في حبال الهوي وود علي الله أن يعتقا
فلما قضي الحظ فك الأسير حن إلي أسره مطلقا
هذه قصيدة بديعة تنم عن لوعة ناجي الشاعر الرومانسي الذي يترك الواقع و يهيم شوقا وراء حبه يستدعي الذكريات و الديار التي امست شبحا خاليا و قد بثشاعرنا الجميل ناجي أشجانه وأحزانه لرؤية دار أحبابه وقد هجروها، تلك الدار في حسرة و ظل يهمس محترقا يبث احزانه من اعماق انفاسه في صور تعكس حالته البائسة ...
و كأنه يطوف بكعبة الحب و الايمان يتسائل عن الفراق داعيا ربه ان يعود مكللا بتحقيق كل مآربه بعد متاعبه حيث الحنين فيقول فيها :
مع قصيدة " العــــــــودة "
هذه الكعبةُ كنّا طائفيها والمصلّين صباحاً ومساءَ
كم سجدنا وعبدنا الحسنَ فيها كيف باللّه رجعنا غرباء
دارُ أحلامي وحبّي لقيتْنا في جمود مثلما تلقى الجديدْ
أنكرتْنا وهْي كانتْ إن رأتْنا يضحك النورُ إلينا من بعيدْ
رفْرَفَ القلبُ بجنبي كالذبيحْ وأنا أهتف: يا قلبُ اتّئدْ
فيجيب الدمعُ والماضي الجريحْ لِمَ عُدنا؟ ليت أنّا لم نعد !
لِمَ عُدنا؟ أَوَ لم نطوِ الغرامْ وفرغنا من حنين وألمْ
ورضينا بسكون وسلامْ وانتهينا لفراغ كالعدم؟!
أيها الوكرُ إذا طار الأليفْ لا يرى الآخرُ معنًى للمساءْ
ويرى الأيام صُفراً كالخريفْ نائحات كرياح الصَّحراء
آهِ مما صنع الدهرُ بنا أَوَ هذا الطللُ العابس أنتَ !
الخيالُ المطرقُ الرأسِ أنا؟ شدَّ ما بتْنا على الضنك وبتَّ !
أين ناديكَ وأين السمرُ أين أهلوكَ بساطاً وندامى
كلّما أرسلتُ عيني تنظرُ وثبَ الدمعُ إلى عيني وغاما
مَوْطِنُ الحسن ثوى فيه السأمْ وسرتْ أنفاسُه في جوِّهِ
وأناخ الليلُ فيه وجثمْ وجرَتْ أشباحُه في بهوهِ
والبِلى! أبصرتُه رأيَ العيانْ ويداه تنسجان العنكبوتْ
صحتُ يا ويحكَ تبدو في مكانْ كلُّ شيءٍ فيه حيٌّ لا يموتْ !
كلُّ شيءٍ من سرور وحَزَنْ والليالي من بهيجٍ وشَجِي
وأنا أسمع أقدامَ الزمنْ وخطى الوحدةِ فوق الدرجِ
رُكْنِيَ الحاني ومغنايَ الشفيقْ وظلال الخلدِ للعاني الطليحْ
علم اللّه لقد طال الطريقْ وأنا جئتكَ كيما أستريح
وعلى بابكَ أُلقي جعبتي كغريب آب من وادي المِحنْ !
فيكَ كفَّ الله عنّي غربتي ورسا رَحْلي على أرض الوطن !
وطني أنتَ ولكنّي طريدْ أبديُّ النفيِ في عالَم بؤسي !
فإذا عدتُ فللنجوى أعودْ ثم أمضي بعدما أُفرغ كأسي !
بعد ان طفنا سويا داخل كعبة العاشق ابراهيم ناجي مع رومانسياته التي تهز القلب و المشاعر ترفرف حول حسه المرهف نستعيد الذكري و كيف ولد يعاني و يكابد الاحزان و يحترق فؤاده علي فقدان الحبيب في غربة و اغتراب تظل المرأة رمزا للمحبة و الحياة يستلهم منها القيم و المعاني الجميلة فهي السكن و الملاذ و الوطن الكبير يسافر منه و اليه كعبة العبقرية و الالهام ---
مع الوعد المتجدد لتغريدة الشعر العربي أن شاء الله
-----------------------------
ليست هناك تعليقات