أحدث المواضيع

الهجرة وصناعة الأمل

من كان يظن أنّ يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟ ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيما تذروه الرياح! من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟

إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا يقدر، لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدًا، كان يقول في كل موسم: "من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي". ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك!

لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاءوا على ضعف وقلة.

"إنها التقادير يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله".

ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا... ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله رضى الله عنه: حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة". قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه.[1]

أرأيتم.. يعرض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتسد الأبواب.. ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة.

فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال المادية الصارخة والنافضون أيديهم من قدرة الله وعظمته؟ وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبة المغلوبة على أمرها؟

إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء وعلينا أن نعمل حتى تصل دعوتنا إلى العالمين، وألا نحتقر أحدا ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلم الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل الله يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجر واعد؟ ومن يدري لعل آلامنا هذه مخاض العزة والتمكين.

أعظم دروس الهجرة

***************

إننا على أبواب عام هجري جديد يقبل محملاً بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مودع يمضي بما استودعناه نقف متذكرين هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .. إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع. إنها وقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة خطه رسول الله وصحبه. إنها رجعة إلى العقل في زمن طاشت فيه العقول. ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.

إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبراتها "صناعة الأمل".. نعم، إن الهجرة تعلِّم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله. الأمل في نصر الله. الأمل في مستقبل مشرق لـ "لا إله إلا الله". الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.

لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وها هو رسول الله يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.

قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل، اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.

وعلى كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم. مع ذلك صنع رسول الله الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9]. خرج الأسير المحصور يذرّ التراب على الرءوس المستكبرة التي أرادت قتله! وكان هذا التراب المذرور رمز الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء.

ويمضي رسول الله في طريقه يحث الخُطا حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، فحفيت قدما رسول الله وهو يرتقيه، فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام.

مرة أخرى يصنع الأمل !

ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف.. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا! فيقول : "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".

وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خطوات! فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل. وكيف تتغشى عناية الله عباده المؤمنين {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].

وإذا العناية لاحظتك عيـونها *** نم فالحـوادث كلهـن أمانُ

ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول، لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:

لا دروع سابغات لا قنـا *** مشرعـات لا سيوف منتضاه

قـوة الإيمـان تغنـي ربها *** عن غرار السيف أو سن القناة

ومن الإيمـان أمـن وارف *** ومن التقوى حصـون للتقـاة

ليست هناك تعليقات